قِصَّةُ الهِجْرَةِ النَّبَويَّة (٤)

الحمد لله الذي جعل الهِجرةَ فتحًا ونصرًا وعزًا للإسلامِ وفخرًا للمسلمين. والصلاة والسلام على عبده ورسوله إمام المهاجرين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فبعد أن جاء الإذن الإلهي للرسول – ﷺ – بالهجرة، اختار الله له المدينة المنورة دارًا للهجرة ومركزًا للدعوة.
واختار هو لصحبته أبو بكر الصديق – رضي ألله عنه – من بين كل الصحابة، لأنه أقرب صحابي لقلب النبي – ﷺ – وأحبهم له.
فقد كان ابو بكر يحمل قلبًا رحيمًا وطاعة مخلصة للنبي – ﷺ – في منشطه ومكرهه.

هَاجَرْتَ لِلِه تَطْوي البَيّد مُصْطَحِبًا
خِلًا وَفِيًا .. كَرِيم النَّفْسِ هَادِيهَا

هُو الإمَامُ أبُو بَكْرٍ .. وقِصَتُهُ
رَبُّ السَّمَاواتِ فِي القُرْآنِ يَرْويهَا.

فكانت هجرته ﷺ – من مكة تضحيةً عظيمةً، عبَّر عنها بقوله وهو يقِف على مَشارفها مُلتفتًا إليها وقد بلغَت اللوعة في قلبه على فراقها كل مبلغ، كيف يُخرج منها؛ فإذا به – ﷺ – يخاطبها يودعها بهذه الكلمات المؤثرة: (والله إني أعلم أنك خيرُ أرضِ الله وأحبُّها إلى الله، ولولا أنِّ أهلَكِ أخرجوني منك ما خرجتُ).

هكذا تحسَّر – ﷺ – على بلدته مكة التي أحبها وألِفها، والتي درج فيها وتربى، وهي وطنه الأول أفضل البلاد وأعظمها، فيُغادرها وهو يعلم عظمتها عند الله.

كان ودَاعًا حارًا، يقطر حبًا وحنانًا إلى هذا الوطن الحبيب، ويفيض حسرة وأسى على فراقه.

وَدَّعتَ مًكَةَ والفؤادُ يُحِبُّهَا
وَتَرَكْتَ فِيهَا الكُفْرَ يَلْعبُ مَيْسِرَا

وَتَرِكْتَ لَيلَ الشِّركِ يَأْكُلُ بَعْضُهُ 
بَعْضًا؛ وَقَدْ بَرِمَتْ بِهِ أمّ القُرَى 

غادر – ﷺ – وأبو بكر الصديق – رضي الله عنه – مكة قبل أن يطلع فجر ذلك اليوم المشهود، وأمر – ﷺ – عليًا – رضي الله عنه – أن ينام على فراشه، ودعا الله عز وجل أن يعمي عليهم أثره على طريق هجرته، فطمس الله على أبصارهم.

فخرج – ﷺ – من بينهم وهم لا يشعرون، فقد ألقى الله عليهم الذلة والمهانة، فحثا على رؤوسهم حفنة من التراب ونهض، فلما أصبح كفار قريش متربصين به – ﷺ – خرج عليهم عليٌ – رضي الله عنه – فأخبرهم أن ليس في الدار أحد، فعلموا أن رسول – ﷺ – قد فات ونجا منهم.

أَسْرَجْتَ خَيلَ الحَقِّ فِي غَسَقِ الدُّجَى
وَخَرِجْتَ والتَّارِيخُ يُبْصِرُ مَا جَرَى 

وَمَررتَ مِنْ بَينِ الرِّجَالِ كَأنَّهُم
خُشُبٌ وسَلَّمْتَ الأَمَانَةَ حَيْدَرَا 

أُحْثُ التُّرَابَ عَلَى الرُّؤوسِ ولا تَخفْ 
فَعِيونُ مَنْ رَصِدُوا طَرِيقَكَ لَا تَرَى

وحتى يصرف نبينا الكريم وصاحبه الحميم أنظار المشركين عنهما، فقد سلكا طريقًا معاكسًا لطريق المدينة المعروف، حتى وصلا إلى جبل ثور الواقع جنوب مكة، فتحصنا في غار ثور، واختفيا عن أعين قريش، وكانت أسماء بنت أبي بكر تأتي لهما بالطعام، وعبد الله بن أبي بكر يأتي لهما بالأخبار، وعامر بن فهيرة يأتي بالغنم فيحلبها لهما، ويمحو أثار عبدالله بن أبي بكر يتبعه بغنمه، وعبد الله بن أريقط الدليل الماهر الأمين ومعه الراحلتين.

في تلك اللحظات العصيبة انطلق المشركون يَبحثون في كل طريق عن النبي- ﷺ – وعن صاحبه الصديق – رضي الله عنه – بعد أن افتقدوهما بمكة.

وقد جعلت قريش الجوائز والهِبات
فأعلنت في نوادي مكة أنه من يأت بالنبي – ﷺ – حيًّا أو ميتًا فله مائة ناقة؛ فطمع سراقة بن مالك بن جُعْشُم في نيل الجائزة، وفي الصحيح أن فرس سراقة وقعت به أكثر من مرة، وغاصت حوافرها في رمال البحث كرة بعد كرة، حتى أيقن أن النبي – ﷺ – معصوم منه؛ وأن جهد قريش في البحث عنه لا محالة سيعود مندحرًا مهزوما ؛ وأن أملها في وجدانه سيرجع محسورًا ملوما.

يصل المشركون عند باب الغار، وتبدأ حينها القصة، وتُسطَّر الملحمة، إنها ملحمة محبة الله – جل جلاله – والثقة بنصره، يقول: الصديق – رضي الله عنه – “يا رسول الله، لو نظر أحدهم إلى موضع قدميه لأبصرنا ” هنا تتفجر أنهار العظمة، وتتفتق أنوار اليقين، ويضوع أريج الإيمان، فيقول – ﷺ – (يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما).

وهنا يتجلى معنى الوحي إيمانًا وثقةً ويقينًا وثباتًا، فيُسجِّل القرآنُ هذه المرحلة الكريمة، وقوة الصبر والتوكل والشكيمة، بقوله جل من قائل: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيم}،[التوبة: ٤٠].

إنها الرعاية، إنها العناية، إنها أجل معجزة وأرفع غاية وأسمى آية، إنها أرقى مقامات العبودية وأعلى منازلها، إنها معية الله وعنايته التي لا تساويها أي معية.

هِي قُدْرَةُ الرَّحْمَنِ تِلكَ عِنَايَةٌ
مَنْ يَرْتَدِي ثَوبَ العِنَايَةَ قَدْ عَلَا

وبعد ثلاث ليالٍ من دخول النبي – ﷺ – وأبو بكر – رضي الله عنه – في الغار، وبعد أن هدأ الطلب، ويئس المشركون من الوصول إليهما، خرج – ﷺ – وأبو بكر – رضي الله عنه – قاصدين المدينة.

وفي طريقهما إلى المدينة نزلا بخيمة أم مَعبد، تلك المرأة البدوية التي وصفت النبي – ﷺ – وصفًا دقيقًا ينم عن سلامة فطرتها ونيافة فصاحتها وملاحة عبارتها، وصفًا أخذت به كتب السيرة؛ فسار على كل لسان، وأسر كل لبٍ وجنان، وتدفق بكل رونق وبيان. فسألاها إن كان عندها شيء من طعامٍ ونحوه، فاعتذرت بعدم وجود شيء سوى شاة هزيلة لا تُدِرُّ اللبن، فأخذ النبي- ﷺ – الشاة، فمسح ضَرْعها بيده الشريفة، ودعا الله أن يُبارك فيها، ثم حلب في إناء وشرِب منه الجميع. 

وَانظُرْ مَعِي شَاةً هُنَاكَ هَزِيلَةً 
كَادتْ تَمُوتُ وَأوشَكَتْ أَنْ تَنْفِقـَا

مَسَحَ النَّبِيُّ بِضَرْعِهَا فَتَدَفَّقَتْ 
وَكَأَنْهَا السَّيلُ العَظِيمُ تَدَفَقَــا

يَا أَم مَعْبَدَ قَدْ سَعِدْتِ بِمنْحَةٍ 
مَنْ مَسَّهُ المُخْتَارُ أَمْسَى مُغدِقَا

وانتهت هذه الرحلة الفريدة، والهجرة المباركة، التى التفتَ لها التاريخ، ولوى الزمان عنقه مشرئبًا إليها، وانعقد الفضل بين ناظريها، وسعد الكون كله بها؛ بما فيها من مصاعب وأحداث، ليصل النبي – ﷺ – إلى أرض المدينة المنورة في شهر ربيع الأول من العام الثالث عشر من البعثة. وفي الجزء الخامس من المقال نستعرض بمشيئة الله – تعالى – وصول الركب المبارك إلى المدينة تحفهم عناية الله.

هَذِي المَدِينَةُ قَدْ لَاحَتْ طَلَائِعُهَا
والبِشْرُ مِنْ أَهْلِهَا يَعْلُو نَواصِيهَا

اللّهم أَحينا على سنَّةِ نبيِّك محمد – ﷺ – ووفقنا لسيرته والسير على منهاجه، وتوفنا على ملته، وارزقنا شفاعته، وأوردنا حوضه، واكرمنا بمرافقته في الفردوس الأعلى.

والحمدلله رب العالمين، وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

 

حسن مهدي قاسم الريمي

مقالات سابقة للكاتب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *