في علم الاجتماع نحاول تدريب الباحثين فيه وطلبته على أن لا يقصر او يقتصر في تفسير ظاهرة ( ما ) على بعد واحد .. وإنما نحاول أن نرسخ في الأذهان سعة الأفق واستجماع كل ما يمكن أن يكون سببا في حدوث ظاهرة او مشكلة ( ما ) !! لأن الحكم (الدقيق) على الأشياء فرع عن التصور ( العميق ) لها.
وهكذا ظاهرة ( الخلاف) بين العلماء في الأحكام لها أسبابها المتعددة سواء في معرفة صحة الدليل من ضعفه او في القدرة على تنزيله أو غير ذلك من الأسباب المعروفة في الاختلافات.
ما جعلني أكتب هذه المقالة هو ما يحدث كثيرا في مجالسنا وحواراتنا من التشبث بالآراء او الحدة في طرحها او تسفيه من يخالفها أو أحيانا تصديقها أو تكذيبها بناء على من قالها !!
أهم قضية ( منهجية ) قبل كل حديث هي الإجابة على هذا التساؤل :
(هل لدينا الاستعداد لقبول أقوال الآخرين وهل نمنح أنفسنا التفكير في صحة ما قالوا من عدمه) ؟
وأقوم الشخصيات على وجه الاطلاق هي التي لديها (الاستعداد الفطري) لقبول الحقائق وعلى رأسها الاستجابة لأمر الله ونهيه .. لأنها علامة الإيمان.
وما دون ذلك من الاستجابات تخضع لعدد من المعطيات التي أهما أن يكون لدينا مفهوم ( السعة ) في استيعاب مسائل الخلافات التي تتسع فيها الآراء.
في جلستنا الأسرية العلمية كل مغرب جمعة مع أهلي وأولادي (يتحمس) بعضنا لرأي ( ما ) وفي الحانب الآخر يتمسك آخر برأيه. ثم أحاول أن أطرح مسألة السعة في الرأي .. وأن الأمر يمكن ان يقبل هذا وذاك وفق ظروف معينة .. وأحيانا يصح ذلك في ظرف وقد لا يصح في ظرف آمر .. والأهم من ذلك كله ( صح ما تقول ) او لم يكن كذلك .. فالأهم سعة الفكر لقبول ما يمكن أن يكون أقرب للصواب سواء قاله أخوك أو أختك أو قلته أنت !!
أجمل ما في النقاشات والحوارات ما يكتنفها من روح الود والتطلع للحق وتغذية الفكر بالتحليل والتعليل.
أذكر أنني قرأت عن إمام اهل السنة أحمد بن حنبل أن تلميذه إسحاق بن بهلول الأنباري أطلعه على كتاب سماه ( كتاب الاختلاف ) فقال له الإمام أحمد : سمه (كتاب السعة ) ..!!
هذا الدين مبني على التوسيع على الناس في معاشهم .. والسماحة في تداول شؤونهم .. وذلك كله مصدر ثراء وإثراء للناس وحياتهم وعمرانهم.
فعلا تعدد الآراء والمصادر والسياحة في أقوال الآخرين تثري عقلياتنا وتنمي أفكارنا .. وتزيد من مخزون علمنا .. بل تؤثر على آفاق أمننا وتنميتنا.
وما يجعل الإنسان ضيق التفكير .. ومحصور الأفق هو كونه صلفا .. حادا .. ناشفا .. وأحيانا يريد أجوبة سريعة التحضير كالوجبات المعلبة.
ومهما ضاقت او اتسعت عقولنا لتناول وتداول أي قضية فإن بقاء الود وحفظه أمر (مفروض) وأي ضيق واحتداد وزعل أمر (مرفوض) .. !!
والعقلية كالنفسية يصيبها أحيانا من العلل والخلل والزلل والأمل والملل ما يجعلها تضيق او تتسع وفقا للحالة التي تمر بها !!
ولذلك من المهم أن يكون الإنسان مدركا لما يحسنه من أبواب الحديث حتى يحفظ ويحافظ على سلامة عقليته من التجريح بالإيماء او التصريح.
وعلامة النضج الفكري هي الفرح بالمعلومة الجديدة .. بالفائدة .. بالنقاش والحوار الإيجابي .. وبعد ذلك وقبله بالتطبيق العملي لكل ما فيه فائدة.
المعلومة لعقولنا .. كالطعام لأجسادنا !! ولذلك من المهم التأكد من صحة ما ندخل لعقلياتنا من أفكار كما نتأكد من صحة ما ندخل في أفواهنا من طعام .. كي نسلم من أي مرض يشل عقولنا من التفكير والتأمل .. ويعيق شخصياتنا من التفاعل والتفاؤل.
أ.د خالد بن عبدالعزيز الشريدة
مقالات سابقة للكاتب