الحمد لله الذي جعل الهِجرةَ فتحًا ونصرًا وعزًا للإسلامِ وفخرًا للمسلمين. والصلاة والسلام على عبده ورسوله نبينا محمد سيد المرسلين وإمام المهاجرين وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإن الناظر لمقاصد الهجرة النبوية، وأهدافها الاستراتيجية، ليدرك جليًا أن الهجرة لم تكن مجرد انتقال من مكان إلى مكان، ولا تحول من خوف إلى أمان، بل كانت حدثًا أجمع الصحابة – رضى الله عنهم – على أنه يستحق أن يكون الحدث الأكبر فى عصر النبوة الذي تُؤَرَّخ به الأحداث الإسلامية على مرِّ العصور لبدء العام الهجرى الجديد.
لقد كان من مقاصد الهجرة النبوية المباركة البحثُ عن أرض طيبة لغرس بذرة الإيمان والتمكين للعقيدة الإسلامية، وتوفير الأمن للمؤمنين الذين اتبعوا هذا الدين القيّم، وإيجاد أنصار أقوياء أمناء يُسهِمُون في بناء مجتمع إسلامي كما أمر الله.
لذلك كان هم النبي – ﷺ – الأول أن يوطد دعائم الدولة الإسلامية الناشئة في إقامة الدين، ونشر الدعوة، وحماية المسلمين، وبناء المجتمع الإسلامي الموحد.
فبعد الإستقبال الحافل الذي حظي به النبي – ﷺ – من أهل المدينة والذي كان له الأثر الكبير في التخفيف عن قلب النبي – ﷺ – ومواساته، شهدت الأيام الأولى من وصوله – ﷺ – إلى المدينة المنورة القيام بعدد من الخطوات المباركة، والتي من شأنها أن تؤمن مستقبل الدولة الإسلامية الناشئة، وتحمي أرضها، وتنظم العلاقات بين أفرادها، فكانت أولى هذه الخطوات:
بناء المسجد النبوي: ليكون المقر الرسمي للدولة الإسلامية، وجامعة يتلقى فيها المسلمون تعاليم الإسلام وتوجيهاته، ومنتدى تجتمع وتتآلف فيه العناصر القبلية المختلفة التي نافرت بينها النزعات الجاهلية وحروبها، وبرلمانًا لعقد المجالس الاستشارية والتنفيذية.
ودارًا يسكن فيه فقراء المهاجرين الذين لم يكن لهم دار ولا مال.
ثانيًا: بناء حجرات لأمهات المؤمنين: عائشة وسودة – رضي الله عنهما.
ثالثًا: تسوية الأوضاع الداخلية بين الأنصار أوسهم وخزرجهم، والمؤاخاة بينهم وبين المهاجرين.
رابعًا: دستور المدينة، والذي يسمى: وثيقة المدينة أو صحیفة المدینة، الذي أطنب فيه المؤرخون والمستشرقون على مدار التاريخ الإسلامي، واعتبروه مفخرة من مفاخر الحضارة الإسلامية، ومَعلَمًا من معالم مجدها السياسي والإنساني.
خامسًا: إنشاء سوق لأهل المدينة بعيدًا عن سيطرة اليهود على اقتصاد المدينة.
سادسًا: التنظيم الإداري للسرايا والغزوات.
هذه أبرز الخطوات والأعمال التي قام بها النبي – ﷺ – بعد وصوله إلى المدينةالمنورة.
مُحَمَّدٌ يَا رَسُولُ اللهِ إِنَّا
لَنَفْخَرُ حِينَ يَنْتَدِبُ الفَخَارُ
بِكَ اتْشَحَ الزَّمَانُ ثِيَابَ عِزِّ
فَشَعَ النُّورُ وَارتَفَعَ المَنَارُ
فَسَادَ اَلْحَقُ وَاجْتَمَعَتْ قُلُوبٌ
عَلَى التَّوحِيدِ وَاتَخَذَ اَلْقَرَارُ
بِكَ اجْتَمَعَ الشَّتَاتُ وَرُبَّ جُرْحٍ
عَلَى مَافِيهِ يَلْتَئِمُ انْكِسَارُ
وفي ختام هذا السرد المقتضب لقصة الهجرة النبوية، التي أَبْقَتْ عَبَقَهَا الزاهي على مر الأزمان، والذي إمتد الحديث عنها لِستِ مقالات، وقفنا من خلالها وقفاتٍ سريعةً وعابرةً على أهم مراحل حياة النبي – ﷺ – الأساسية التي لازالت تمثل نهرًا متدفقًا للعلماء والباحثين، قديمًا وحديثًا؛ لينهلوا من معينها الصافي، ويرتووا من مائها العذب، ويتفقهوا من دروسها الحية النابضة.
والتي هي محطُّ إعجابٍ وتقدير من كلِّ من يُطالعها، ويتصفح أحداثها، ليس ذلك فحسب ممن آمنوا بنبوته- ﷺ – وشهدوا له بالرسالة، وأقروا له بالعصمة؛ وإنما أيضًا ممن يُطالع تلك السيرة من غير المسلمين، ومن غير المؤمنين أصلًا بالوحي والنبوات.
ولا عجب، فالنبي محمد – ﷺ – هو سيد ولد آدم، وهو خاتم أنبياء الله ورسله، ورحمته للعالمين، ولهذا جاءت حياته النبوية الشريفة منهاجًا للنجاة في الدنيا والآخرة، ونموذجًا عمليًّا للإسلام، وتطبيقًا حيًّا للقرآن الكريم.
فحري بنا أن نكون أكثر وفاءً بحق صاحب هذه السيرة العطرة – ﷺ- ونأخذَ من ذكرياتِها وأحداثها المدد والمَعينَ والزَّاد، فنرسم لأنفسنا منهج سير ومعلمَ هداية لإعلاء كلمة الله– تعالى – في الحياة، وننتقل إلى حالة التفعيل والتمثُّل والاقتداء به – ﷺ . فلا نريد أن نقف عند حدود المدح والثناء، بل علينا أن نستصحب مع ذلك العبر والدروس.
اللّهم أَحينا على سنَّةِ نبيِّك محمد – ﷺ – ووفقنا لسيرته والسير على منهاجه، وتوفنا على ملته، وارزقنا شفاعته، وأوردنا حوضه، واكرمنا بمرافقته في الفردوس الأعلى.
والحمدلله رب العالمين، وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
حسن مهدي قاسم الريمي
مقالات سابقة للكاتب