حَفَّار قبور!

يشرع الإنسان في تكوين علاقاته، وتشكيلها وفق رؤيته الخاصة، وانطلاقاً من محددات شخصية، وأخرى عامة.
وهو عند بدء هذا التكوين والتشكيل لعلاقاته، قد لا يتبادر إلى ذهنه أسئلة من قبيل:
هل هذه العلاقات ستستمر زاهيةً بثوب الوفاء؟
أم ينتهي بها المطاف إلى حملها على كفن الجفاء؟
أم أنَّها تغدو كأرجوحةٍ تلهو بها رياح ظروف الحياة، لا تعرف استقراراً، ولا تمنح سكينة؟
ولكن ماذا نفعل إذا كُتِبَ لبعض هذه العلاقات أن تذهب أدراج الأيام، وغدتْ ذكرياتها كدقيق تذروه الرياح، وبدأت جدرانها في التَّصدُّع، وأمستْ قاب قوسين أو أدنى مِنْ التهاوي والتلاشي؟
يقول الكاتب أدهم شرقاوي في كتابه (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ):
‏”تَعاملْ مع العلاقاتِ التي انتهتْ، كأنّها قُبور، والقُبور لا تُنبَشْ!”
في المقابل يقول الكاتب هاري ماريتنسون في كتابه باقة برية:
‏”عندما توشك الذكريات على الرحيل؛ تزوركَ بكثرة أولاً، كأنما ترغب أن تستهلكها حتى النهاية.
‏من الأفضل أن تستهلكها مثل وجبة مفضلة، لدرجة أنك لن تشتهيها ثانية.
‏من هنا تنقص قيمتها؛ وبالتالي تسقط ذات يوم فريسةً للنسيان”
‏ونحن بين هذين القولين، نجد أنه من الحكمة عند تشكيل العلاقات الاجتماعية أنْ نُغَلّبَ جانب بَذْل النية الطيبة؛ طاعةً للرحمن، ورجاءً لثوابه وتوفيقه، وأنْ ننزع إلى الإنسانية، والقواسم المشتركة التي تتطلبها، وأنْ ننحاز إلى النُّبْل والمروءة والفروسية.
لكن إذا ما سارت الأمور على غير المراد الذي نبتغيه، وأمستْ ليالي تلك العلاقات حُبْلى بالتوتر والضغوط النفسية، يمكننا أن نكون أكثر نُبْلاً حتى عند الوداع، وأن نحفظ لتلك العلاقات فضْلها في سابق العهد، وأَلَّا نجنح إلى الأخْذ بأسباب نصرٍ زائف، وأَلَّا نجعل من عقلنا حَفَّار قبور، ينبش ذكرياتٍ مضتْ إلى حال سبيلها.
إنَّ من الوعي أن ندرك أهمية معرفتنا بفقه العلاقات، وأننا بحاجة إلى الانتقال من علاقات الفقه إلى فقه العلاقات.
وأَلَّا تُبنى العلاقات على النَّفْعيّة المحضّة، وألَّا نرفع سقف التوقعات بعيداً عن أرض الواقع، وأنَّ كل إنسان يمر عبر حياتك يقدم لك درساً على هيئة مواقف، وأنت أيضاً تُبادله تقديم الدرس بأسلوبك الخاص.
فلا تبتئس من علاقاتٍ باليةٍ، ولا تقف عندها كثيراً، فلا جدوى من ذلك، فلا فائدة بلغتْ، ولا غايةً وصلتْ، ويكيفك أنْ تتزود منها ما يمنحك مناعةً ضد الوقوع في قادم أيامك.

سليمان مُسْلِم البلادي
solimanalbiladi@

الحلقات السابقة من روشتة وعي

2 تعليق على “حَفَّار قبور!

أحمد بن مهنا الصحفي - أم الجرم

هذه إعادة صياغة لمعان ثابتة ! رائع جدا أنت يا أستاذ سليمان..
ونقطة بقلمي في بحر مقالك هذا .. أقول :
أن كثيرا من الناس يحسن بناء العلاقة لكنه لايحسن الحفاظ عليها ولا ترميمها لو احتاجت ، وماذلك إلا لأنه وضع قوانين لها من تلقاء نفسه فما يلبث أن يصبح وسط المجتمع وحيدا ..يسوق إليه تفكيره الوجل ، والشك في تصرفات الآخرين ، حتى تنقلب عنده الموازين كلها .. ليته يقرأ مقالك هذا ثلاث مرات كل يوم حتى يتعافى .. !

سليمان مُسْلِم البلادي

تعقيبٌ زاد المقال ثراءً،ومنح كلماته بهاءً،
ووجَّه البوصلة نحو الداء والدواء.
وافر الشكر والتقدير أستاذنا القدير ا.أحمد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *