في لحظات وداع ومشاعر جيّاشة مليئة بالحب والتقدير والشكر والاحترام الكامل ، اندفعت اليوم قبل سفري إلى الرياض نحو قدمي والدتي فقبلتها بكل صدق وعفوية وحب.
كانت والدتي تحاول منعي من ذلك بقولها ” لا تُهِن عمرك يا حبيبي” ولم تعلم أن تلك القبلات الصادقة لملمت بعضاً من جراحي و رأبت صدع شتاتي وأعادت التوازن لحياتي المضطربة.
فأمي هي البلسم الشافي لمعاناتي والعطر الزاكي في سمائي ونور حياتي في أوقات الظلمة التي تباغتني من حين لآخر ، ومصدر سعادتي الأبدية ولا أتخيل أبداً كيف أعيش حياتي في هذا الوجود بدونها.
كل أحد في الغالب يزعم أن أمه سيدة نساء العالم ولن يجود الزمان بمثلها وذلك نفس شعوري نحو أمي الغالية.
أشعر بصدق ويقين أن أمي نادرة الوجود. تعلمت من قصصها المؤثرة التي تحكيها لنا باستمرار عن ماضيها الصعب وتجاربها المريرة وتضحيتها العظيمة من أجل تنشئتنا أنا وأخوتي، تلك القصص التي ما أن تفرغ من سردها حتى تنساب الدموع الحارة على خدها الطاهر فأتشارك أنا معها أيضاً في سكب دمعات من الوجع والألم والحزن.
سأنتزع عزيزي القارئ قصتين من قصصها الكثيرة الموجعة لتشعر بشيء من الألم الذي يسكن قلبها الحزين المنهك، أولها عندما أمرها شخص ذو نفوذ في عائلتها بأن تذبح عنزتها الوحيدة التي كانت تسقينا من حليبها نحن أطفالها الصغار كل يوم، لتقدمها طعاماً له غير آبهٍ بنا ، فما كان ردة فعل والدتي المسكينة سوى أنها أنهارت بالبكاء الصامت كمداً من الحُزن وقد غُلِبت على أمرها.
وثاني قصصها أنها كانت تذهب إلى منطقة بعيدة فيها مزارع النخيل وتجري اتفاقاً بأن تسقي شجيرات النخيل الماء وتعتني بها بشرط أن تأخذ فقط التمر الذي يتساقط ليلاً إثر الرياح ففي كل ليلة تشعل النار في ( جريد النخل) وتبحث عن التمر المتساقط الذي أغلبه رديء حيث لا يحق لها حسب الاتفاق مع صاحب المزرعة أن تمد يدها إلى ( عذوق النخل ) السليمة.
التضحية التي قدمها والداي ووالدتي بشكل خاص دأبت أمي على تكرارها على أسماعنا باستمرار حتى لا ننساها في خضم حياتنا المترفة وانشغالنا بتفاصيل حياتنا التي فيها من التفاهات الشيء الكثير.
الألم والوجع في قلب أمي على مر السنين بقي محفوراً وله أخاديد عظيمة العمق في روحها المتعبة حتى أنها عندما تأتي لحظات من الفرح تبكي بحرقة وكأنها لا تصدق أنها تعيش كل ذلك النعيم بعد سنين عجاف قاسية نجت منها بأعجوبة.
إنني أحرص دائماً على حثّ أمي على أن تدعو لي باستمرار فدعواتها كالبلسم الشافي لكل معاناتي وجراحاتي التي لا تخلو حياة أي أحد منها.
أنثر كل أحلامي وأمنياتي بين كلتا يديها الحانية فتمطرني بسيل من الدعوات تصعد بحب وبقوة نحو أفق السماء.
أمي الحبيبة العزيزة لك مني كامل الحب وصادق الدعوات والشكر التام على كل ما بذلتيه من تضحيات من أجل أن نعيش نحن أبناءك جميعاً بعِزّة وكرامة وسلام.
منكِ تعلمت العطاء اللامحدود، تعلمت زرع بذور الخير في طريق المارة في دروب الحياة دون انتظار أي مقابل منهم.
تعلمت من قصصك الكثيرة ذات المعاني السامية أن الأمل لايموت وأن الإحسان جزاءه الإحسان وأن الصبر مفتاح الفرج وأن تلك الدعوات التي كنتِ تخبئينها لأوقات السَّحَر وأوقات الأجابة كتب لها ربي القبول أخيراً.
حفظكِ الله لنا يا أغلى وأحب إنسانه على قلبي ورزقنا الله برك في كل حين. وداعاً حبيبتي الغالية واسأل الله أن نلتقي قريباً. محبك إبنك المخلص البار ( نوار).
نوار بن دهري
[email protected]
مقالات سابقة للكاتب