موقف في ذاكرتي أبت السنون أن تمحوه وتغيّبه عن مشاعري الدفينة ، هذا الموقف مرّ عليه أكثر من عشرين عاماً ، كان هذا الموقف بيني وبين والدتي في فترة مراهقتي ، كنت طيلة سنوات دراستي أتأرجح في تفوقي العلمي بين المركز الأول أو الثاني لا أخطؤهما البتة ، إن كان هناك مقيم يدرس معي في نفس الصف الدراسي فإني في الغالب لا أنتزع المركز الأول منه بسهولة ؛ والسبب في هذا تفرغه للدراسة وانشغالي بأمور كثيرة ألجأتني إليها الحاجة والعوز وكما ذكرت سابقا في أكثر من مقال أني نشأت في عائلة فقيرة ، فبعد أن أنتهي من الدراسة أرجع للبيت ، ثم تتنوع الأنشطة التي أقوم بها ؛ إما أن أقوم برعي الأغنام ، أو العمل في المزرعة ؛ من سقي للأشجار ، أو جني للثمار وتعبئتها ، أو حراسة المزرعة من هجوم الحيوانات التي تتحين الفرصة لتأكل الأشجار والثمار ، وأي إهمال في أحد هذه المهام يعقبه عقاب موجع من والدي.
وتحت هذه الظروف الآنفة الذكر ؛ لا يتسنى لي مراجعة ما درسته خلال يومي الدراسي من معلومات ، ويقتصر جهدي فقط على حل الواجبات الدراسية اليومية ؛ لأنها كانت إلزامية ، فما أن يحل المساء حتى أخلد للنوم منهكاً من يوم متعب من الصباح حتى المساء ؛ بينما زملاءي المقيمين ليس لهم هم سوى المذاكرة والتركيز على التحصيل الدراسي لذلك يتفوقون علي دائماً.
وقد كنت عندما أتفوق وأحصل على التكريم وشهادات التفوق لا أحصل على هدايا عينية أو مادية من قبل والديَّ ؛ والسبب في ذلك نتيجة ظروفهم المادية القاسية ؛ فقد كنا عائلة تعيش على الكفاف ، وفي يوم من الأيام في مراهقتي ظهرت النتائج وقد حصلت على المركز الأول مع شهادة تقدير ، فأتيت فرحاً إلى أمي وأخبرتها بذلك ، وهنئتني ولكنها لم تكافئني على تفوقي ؛ فما كان مني -وبكل حماقة- إلا أن غضبت غضباً شديداً فعمدت إلى شق ثوبي من أعلاه لأسفله أمام أمي التي لا تملك لي من الأمر شيء؟! ، وكنت أرغي وأزبد ببعض الكلمات التي تصف حالة اللا تقدير من قبل والديَّ على الرغم من تفوقي الدائم حسب زعمي القاصر.
موقف كلما أتذكره أشعر بالخجل والأسف.
الآن بعد ما نضجت عرفت أن أمي لو تملك الدنيا لوضعتها بكل حب بين يديَّ.
أمي وأبي كانا يعانيان الأمرّان في سبيل رعايتنا وتنشئتنا أنا وأخوتي ، لكني ولجهلي لم تكن الصورة الكاملة واضحة لي ، كانت نزعة الأنا لدي هي سيدة الموقف ، حتى قادتني لجرح مشاعر والدتي وقهرها.
يا إلهي كيف فعلت هذا ، لا أصدق أني فعلت هذا الخطأ وأنا بكامل قواي العقلية ، إنها فعلاً غلطة لا تغتفر وهأنذا أقبل قدميك يا أمي ، وأطلب من قلبك الكبير العظيم السماح على كل حماقاتي وأخطائي عندما كنت غرّاً جاهلاً لابساً ثوب الأنا متمحوراً حول ذاتي غافلاً عن الحقيقة التي أعيها بكل تفاصيلها الآن.
الآن عرفت ماهو الفقر…
الآن عرفت حياة الفقراء ومعاناتهم…
الآن عرفت مشاعر الفقراء المرهفة…
الآن عرفت كل شي…
أنا كلي ندم وأسف…
سامحيني يا أمي…
نوار بن دهري
[email protected]
مقالات سابقة للكاتب