رأيت متخصصين في بعض الفنون يشحِّون شُحًّا بالغًا في الثناء على الكتب التي في رسيس تخصصاتهم، ويحاسبون على النقير والقطمير في مجال اهتماماتهم، بينما يطالع أحدهم كتابًا أو يسمع مادةً في غير فنِّه، فيمطرها بوابل الثناء، وذلك لقلة معرفته بذلك الحقل، فالظامئ لا يستشعر بدقة طعم الماء، ولا مدى برودته إلا بعد ذهابِ ظمئه!
وهذا يفيدك أيضًا أن الثناء إذا أتاك من غارق إلى أذنيه في مجالٍ ما فسيكون -إذا خلا من عوارض أخرى كالمجاملة- دقيقًا! ومن هنا يُحتفى بثناء المتخصص، ويحترز مع مثالبه!
وذلك نحو ثناء أبي محمد ابن حزم على سعة علم الإمام محمد بن نصر بالآثار فقد قال: (لو قال قائل ليس لرسول الله صلى الله عليه وسلم حديث ولا لأصحابه إلا وهو عند محمد بن نصر لما أبعد عن الصدق) ..
وهذه الشهادة العريضة يعرف لها العارفون وزنَها، وذلك لخروجها من قلمِ رجلٍ ممتلئ كأبي محمد؛ فحتما لن يرسل الدعاوى الهائلة دون فحصٍ دقيق لمدلولاتها!
لذا تلقف هذه الشهادة العريضة الإمام الذهبيُّ واحتفى بها قائلا: (هذه السعة والإحاطة ما ادعاها ابن حزمٍ لابن نصر إلا بعد إمعان النظر في جماعة تصانيفَ لابن نصر!)
ومن جهةٍ أخرى إن رأيت الثلب والتنقص من متخصصٍ على كتبٍ أو أعلامٍ داخلَ محيط تخصصه وما أفنى فيه وقته وزمانه، فربما تكون دقيقةً، وربما كانت خارجةً من رَحِمِ تطلُّبِ الكمال التام، فهي تلائم حال قائلِها أكثرَ من سامعِها!
لذا حين قال أبو المعالي الجويني عن ابن قتيبة بأنه (هَجَّامٌ ولوجٌ فيما لا يحسنه) فقال الحافظ ابن حجر: (كأنه يريد كلامه في الكلام) أي في علم الكلام؛
فعلَّق العلامة السيد صقر بقوله:
(ولابن قتيبة كلامٌ عن هذا العلمِ، لا يروقُ في نظر رجلٍ انغمس فيه من فرَقه إلى قدمه) ..
فالمنغمس في علمٍ من فرَقِه إلى قَدَمِه حتما ستضيق في نظره دائرةُ الذين يحسنونه فضلا عن المبدعين فيه، وربما مع شدة التوغل في فَنٍ ما تضيق دائرة الانبهار هذه حتى لا تسع إلا رجلا واحدا، فكما يقول الإمام محمد بن إسماعيل البخاري: (ما استصغرت نفسي عند أحد إلى عند ابن المديني).
وهكذا أنتَ رأيتَ أيضًا –رحمك الله- أنه كلما اتسعت الإحاطة؛ كثرت الشروط!
د. سليمان بن ناصر العبودي
مقالات سابقة للكاتب