دائماً ما يأخذ بلبّ مجامع قلبي قصص الإحسان بين الناس أو الإحسان لكافة المخلوقات من طير وحيوانات وغيرها أو حتى الإحسان بمفهومه الشرعي “وهو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك “. الإحسان منزلة ورتبة عظيمة لايبلغها أي أحد ويكفي أن من أسماء الله الحسنى وصفاته أنه هو ” المحسن “وأنه تعالى يحب المحسنين.
الذي دعاني لكتابة المقال غير حبي للإحسان هي قصة تدور حول الإحسان عالقة في قلبي وذهني لأكثر مما يربو على ثلاثين عاماً عندما كنت طفلاً برفقة أخي الأكبر حيث كنا في أحد فنادق مكة المكرمة ، حيث ذهبنا لأداء مناسك العمرة وكنت أنا وأخي الأصغر فرحين جداً بهذه الرحلة التي نقلتنا من قريتنا المتواضعة البسيطة إلى مكة المكرمة النابضة بالحركة والحياة.
وكنت أنا وأخي الأصغر نتخذ من المصعد لعبة لنا ننزل فيه إلى الدور الأسفل ونتجول قليلاً خارج الفندق ثم نعود للمصعد ونعود أدراجنا لشقتنا في الفندق.
الشيء الذي لا أستطيع إنكاره أن عائلتي عانت الفقر في بداية رحلتها في هذه الحياة حيث كابد والداي وأخوتي الكبار مشقة الحياة حينما لم يكن هناك مصادر دخل تضمن رفاهية الحياة وكانت عائلتي تعيش على الكفاف.
وأنا في بداية طفولتي لامست الفقر معهم وعايشته وشعرت به وأدركت صحة المقولة التي تقول ” لو كان الفقر رجلاً لقتلته”.
في أحدى المرات والتي كنا فيها أنا وأخي في المصعد توقف المصعد في أحد الأدوار ودخلت إلينا سيدة وقورة ، ولا أدري هل رقّ قلبها للأطفال وعالمهم البريء أم أنها لاحظت وسم الفقر على محيانا ولباسنا ؟!، فأدخلت يدها في شنطتها واخرجت إن لم تخُنِّي الذاكرة عشر ريالات واعطت كل واحدٍ منا خمس ريالات ، وكنا في غاية الفرح وبلغت بنا السعادة مبلغاً عظيماً مازلت استشعره وقعه في قلبي إلى الآن!!.
تلك السيدة نزلت في أحد الأدوار وغادرتنا حتى أننا لم نقل لها أي شيء ، اعتقد أنها فقط كانت سعيدة لمّا رأتنا سعداء جداً.
لا أعرف أي شيء عن تلك السيدة الرائعة لا أعرف إسمها أو أي معلومة عنها ولكن بقي إحسانها إلى الآن مؤثراً في والدليل على ذلك هو ولادة هذة المقالة عنها.
إن تلك السيدة علمتني خُلُق الإحسان لمن عرفت ولمن لاتعرف وخصوصاً لمن لا تعرف حيث يتجلى فيه الصدق والإخلاص بمعنى الكلمة ؛ وإن كان الإحسان للقريب أيضا فيه ما فيه من الصلة وزيادة الألفة والمودة
تلك السيدة خَطّت في قلبي علامة حُبّ لها ، وشكر وعرفان لصنيعها سيضل باقياً ما حييت ولن تمحه السنون ؛ وكما قال الشاعر :
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهمُ
لطالما استعبد الناس إحسانُ
أنا وأخي عندما كنا أطفالاً لم نعرف حتى أن نقول كلمة شكرٍ لتلك السيدة الرقيقة المشاعر الكريمة الخصال والآن حان الوقت للدعاء لها وشكر معروفها بنا عندما نضجنا وأدركنا أنا وأخي الأصغر الحقيقة بكامل تفاصيلها.
ختاماً عزيزي القارئ لقد نقلت لك تجربة مررت بها في حياتي لموقف قد تراه بسيطاً مرّ عليه سنوات طوال ولكنه بقي حياً في ضميري ووجداني عنوانه ( الإحسان يا إنسان) ، كن محسناً في أي مكان تتواجد فيه سواء مع عائلتك أو مع أقاربك أو مع الغرباء أو مع أي أحد بل كن محسنا حتى مع الحيوانات وجميع المخلوقات ، والأهم من ذلك أن يكون الإحسان ديدنك في كل شؤونك في عبادتك ومعاملاتك وحواراتك وجميع شؤونك ، وقد جاء عن نبينا العظيم ، المحسن الكريم قوله صلى الله عليه وسلم : (إن الله كتب الإحسان على كل شيء ، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبحة ، وليُحدَّ أحدكم شفرته ، وليرح ذبيحته) ؛
وقال الفضيل-رحمه الله-:
“اعلموا -رحمكم الله-أنّ العبد لو أحسن الإحسان كلّه،وكانت له دجاجة فأساء إليها؛لم يكن من المحسنين ! “
ومن هنا يتبين لنا معنى الاحسان الحقيقي ؛ وهو أن يأتي المحسن بأي أمر من أموره على أكمل وأتم وجه ، فإذا صلى أحسن في صلاته بخشوعه فيها وإتمام أركانها وواجباتها وسننها ، وإذا تصدق أحسن في صدقته بالتصدق من أفضل ماله والكرم في بذله عن طيب نفس وكثرة بذل ، وكذاك إذا صام أو حج أو حاور أحدهم وهلم جرا.
ولتعلم أخي الكريم أن الإحسان أعظم منازل الدين قدرا ، وأشرفها أمرا ، وأكثرها أجرا ، وقد أمر الله به وكتبه في كل شي وعلى كل شي ، وقال في محكم تنزيله بأنه يحب أهل الإحسان ويضاعف لهم الجزاء ، ويجزل لهم العطاء ، فقال جل من قائل :(إن الله يحب المحسنين) ، وقال سبحانه :(هل جزاء الإحسان إلا الإحسان) ، ولأنه كذلك من أخص أخلاق الأنبياء عليهم السلام ، ومن أنبل صفات العظماء الكرام ، وأجره وثوابه عظيم ، وأثره راسخ ومستديم ؛ يبقى في القلوب لا تمحه السنون ، ولا تزيله الظنون.
ولتتأكد أخي الكريم أن الإحسان جزاؤه معجل وثوابه مكمل ؛ فالرابح الأول من الإحسان هو المحسن نفسه ؛ لما يجد من فرح وسعادة في قلبه ، وراحة وطمأنينة في نفسه ، وهذا في الدنيا الفانية فما بالك في الآخرة الباقية ؛ فهي خير وأبقى ، والثواب فيها أعظم وأجزى.
تلك السيدة المحسنة المجهولة قد تكون فارقت الحياة ولكن إحسانها العابر بقي مخلداً في ذاكرتي وبإذن الله سيرافقها أجر ذلك الإحسان معها في ميزان حسناتها.
نوار بن دهري
[email protected]
مقالات سابقة للكاتب