الحياة عجيبة جداً ، كثيرة التقلب ، سريعة التذهب ، مفرحة تارة وحزينة تارة ، لا تدوم لأحد على حال ، فدوام الحال من المحال ؛ كما قال تعالى : (لتركبن طبقا عن طبق) ، وقال سبحانه :(وتلك الأيام نداولها بين الناس ).
ومع هذا فهي دار ابتلاء وامتحان ، ولعب ولهو وزينة وهوان ، وتفاخر وتكاثر وغرور كما في القرآن ،
قال تعالى :( اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان ومالحياة الدنيا إلا متاع الغرور ) ؛ والمثل المضروب في الآية عجيب في تطابقه مع حال هذه الحياة التي سرعان ما تتغير وتتبدل ؛ فقد شبه الله الحياة الدنيا بالزرع الذي يعجب الناظرين إليه لخضرته بكثرة الأمطار ، ثم لا يلبث أن يصير هشيما كأن لم يكن ، فالله المستعان.
منذ أيام جالت وصالت في ذهني هذه المعاني العظيمة والايات الكريمة بسبب ما أصاب ابن أخي عبدالله فجأة ومن دون سابق إنذار .
بسبب مرض فيروسي يسمى ( التهاب السحايا ) انقلبت حالة ابن أخي الصحية فبعدما كان حراً طليقاً يخوض غمار الحياة بكل عنفوان الشباب وقوته إذا به طريح الفراش لا يقوى على الحراك ، التهاب بدأ من الجيوب الأنفية وصعد لخلف العين اليسرى فتكونت سوائل ضغطت على المخ فكانت الحاجة ملحة وضرورية للتدخل الجراحي لسحب هذه السوائل الدخيلة التي غيرت أحواله ، وحبست أقواله ، وأخافت أهله وأحبابه ، وعطلت قوته وشبابه .
وبالفعل تم التدخل الجراحي وتم وضع جزء من عظم الجمجمة في بنك العظام حتى يتم التأكد أن ليس هناك فرصة لتجمع السوائل مجدداً حينها يعاد ذلك الجزء من الجمجمة لمكانه مرة أخرى.
دخل عبدالله لفترة في العناية المركزة والآن تم وضعة في العناية المتوسطة. الى الآن وهو لا يتكلم ، يحرك أطرافه ولكن ببطء ، لايعرف مدى إدراكه الكامل للأشياء والناس من حوله. نظره حاد ويتحرك في كل إتجاه ، وكأنه يتكلم بعينيه عوضا عن لسانه.
وأما عواده وزواره فكثر حيث لا يسمح لهم بالدخول على المريض لمنع نقل العدوى للمريض وتكون الزيارة خلف حاجز زجاجي ، البعض من الزوار يخاطب عبدالله لعله يستجيب والبعض ينقر بأطراف أصابعه الزجاج لتنبيهه ولفت النظر ، ومن جهة أخرى الذين يتصلون على والده للاطمئنان على صحة عبدالله أكثر وأكثر ؛ حتى أن كثرة الاتصالات أصبحت مزعجة.
ومن بين كل تلك الزيارات الكثيرة كانت زيارة أمي لعبدالله ؛ وقفت بصعوبة وشاهدت عبدالله بنظرات عن حالها مخبرة ونطقت بكلمات عظيمة ومعبرة ، كلها حب ورحمة وحنان ، وعطف ورجاء من الرحمن ، ( يا حبيبي يا عبدالله) ( مجار ياعبدالله) ( فديتك يا عبدالله) ( علي عنك ياحبيبي) لا أدري هل أدرك عبدالله كلماتها ، أم هل استشف شيئا من نظراتها ، ثم كانت الجملة التي ذاب لها قلبي وفاجأتني ، حيث قالت وكلها أمل في الله ( هيا مشينا ياعبدالله ، تروح معنا). يا إلهي كم زلزتني هذه الجملة ، وأثرت في هذه الكلمة ، فدمعت منها عيوني ولامست قلبي وشجوني.
ماحدث لعبدالله كان درساً قاسياً لكل معتبر ، وتنبيها من الله لكل مدكر ، فما حدث هو جرس إنذار لنا جميعاً أن نستعد لمفاجآت الأقدار ، وتقلبات الدنيا ، وتبدل الأمور .
يجب أن نتوب إلى الله ونستغفره في كل آن حين ولا نسوف التوبة ، فالإنسان لا يعلم ماذا يخبئ له القدر ، ومتى يلحقه الأجل ، فمن كان يتوقع أن يحدث لعبدالله كل ما حدث.
من كان يتوقع أن عبدالله سيغيب عن معرفة محيطه ولا يستطيع الكلام فجأة.
ختامًا أسأل العظيم أن يشافي عبدالله شفاءً لا يغادر سقماً ، وأسأل الله أن يجعل ما أصابه كفارة له وأن لا يرينا فيه مكروه وأن يشافي مرضى المسلمين جميعاً.
كتابة : نوار بن دهري
[email protected]
مقالات سابقة للكاتب