الحمد لله خالق الأنام، ومدبر الليالي والأيام، ومصرف الشهور والأعوام، وجاعل واسطة عقدها شهر الصيام ، والصلاة والسلام على خير الأنام كوكب الهدى ومنار الظلام نبينا محمد وعلى آله وصحبه الكرام.
أما بعد:
فإنّ من حسن التوفيق ومن نفيس الدراري والعقيق أن يَعقِد العبدُ العزمَ على دخول شهر رمضان المبارك بأحسنِ ما يملك مِن بضاعة، وأروع مايبدع في مضمار الطاعة.
فرمضان فرصة قد لاتتاح كل عام، ولا تتيسر كنوز خيراته إلا بعد مشاغل دنيا وزحام، والعاقل من يغتنم هذه الفرصة السانحة والعطية المانحة، ويستفد منها كأنها آخر رمضان سيمر عليه، فربما يأتي العام القادم وبعضنا في هذه الدنيا الفانية غير موجود، أو بجحافل الإبتلاءات والأدواء محشود.
فالتهيئة قبل دخول الشهر أمر مهم لمن أراد الراحة والطمأنينة والمسارعة في الخيرات، والتهيؤ محمود لمن أراد خوض غماره في يقين وثبات، حتى لا يملَّ من مغالبة نفسه وقهرها على فعل الطاعات.
إذَا رَمَضَانٌ أتَى مُقْبِلًا
فَـأقبل فَبِالخَيـرِ يُسْـَتقبَل
لَعَلكَ تُخْطِئـهُ قَابــِلًا
وَتَأتِي بِعـُذْرٍ فَـلا يُقْبَـل
ومن التهيئة قبل دخول الشهر؛ التهيئة النفسية بإزالة ما يشغل النفس، ويقلق الفكر، ويشوش البال ويبعده عن السلامة والاعتدال.
وقد نصَّ العلماء – رحمهم الله – على أنَّ التخلية مُقدَّمةٌ على التحلية، ومِن ثَمّ فإن علينا أن نُطهر قلوبنا التي هي محلُّ نظر الرَّب – سبحانه – قبلَ أن نملأَها بما يُرضيه، علينا أن نتجنَّبَ ما يَشين قبلَ أن نبحثَ عمَّا يزين.
وقد وضع الإسلام منهجًا قويمًا ومسلكًا سليمًا لتغيير الأخلاق، يقوم على مراحل ثلاث:
المرحلة الأولى: مرحلة التخلية، وهي مرحلة “تفريغ” الخلق السيئ، أو التخلص من الأخلاق الرديئة. والمقصود بها: إزالة ما في القلب من آثام وذنوب، ومعاصٍ، وشهوات، وشبهات، حتى يصلح القلب لاستقبال الأعمال الصالحة، والأخلاق الفاضلة.
وأول خطوات التخلية هي: “التوبة”، والتوبة لابد من اجتماع القلب والجوارح على إرادتها؛ لتؤثر في النفس صلاحًا وتغييرًا.
فهي تحتاج إلى اعتراف ورغبة وإرادة في التغيير، قال تعالى: (إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)، {الرعد: ١١}.
المرحلة الثانية: مرحلة التطهير، وهي أصعب المراحل الثلاث، إذ أنها مرحلة انتقالية بين الشر والخير، وهي تعقب مرحلة التخلية، وهي مرحلة تحتاج إلى جهاد للنفس، وعزيمة شديدة، وإرادة صلبة، لمقاومة نزعات النفس، ونزغات الشيطان.
قال الله -تعالى-: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}، [العنكبوت: ٦٩].
المرحلة الثالثة: مرحلة التحلية، وهي المرحلة التي يتم تعبئة النفس، وملأها بالخير، ويقصد بها: أن تحل الأعمال الصالحة في القلب محل الأعمال السيئة، فمن كان كذابًا يعود نفسه على الصدق ويحملها عليه، ومن كان خائنًا يعود نفسه على الأمانة ويحملها عليها حملًا، ومن كان قاطعًا لرحمه يعود نفسه على الصلة، ومن كان شحيحًا يعود نفسه على الكرم والبذل والعطاء وهكذا في جميع أبواب الخير.
قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ}،[النازعات:٤٠]
فرمضان فرصة لاطلاق النفس من قيود العادات المضرة، والترقي بها في طموحات أرحب وأفضل وأرقى وأزكى وأعلى، فالنفوس في رمضان عن الشهوات تترفع، وعن الملذات تتسامى، وعن العادات السيئة تبتعد، وعن كل غرض دنيوي تتعالى؛ لأن الصوم يقيدها ويهذبها، وينقيها ويصفيها.
ومن التهيئة قبل دخول الشهر؛ التهيئة الذهنية، وهي الانكباب على قراءة فضائل رمضان وصيامه وقيامه، وفضائل قراءة القرآن، وفضائل العشر الأخيرة، وفضائل ليلة القدر، وتدبر ما ورد في ذلك كله من الآيات والأحاديث، ومعرفة ما فيها من الفقه والعلم.
ومن التهيئة قبل دخول الشهر؛ التهيئة الجسدية في ترويض النفس على التبكير للمسجد، والمكث فيه طويلاً قبل الصلاة وبعدها، والمحافظة على نوافل العبادات، والإكثار من الذكر وقراءة القرآن، وكثرة الصوم في شعبان؛ حتى لا يدخل رمضان إلاّ قد روض نفسه على الجد في الطاعات، والمنافسة في اكتساب الحسنات.
ومن التهيئة قبل دخول الشهر؛ التهيئة البدنية، بالتخفف من الصوارف والمشاغل، وسرعة إنجازها قبل دخول الشهر، وتأجيل ما لا يمكن إنجازه، وتوفير ما يحتاجه البيت كل الشهر وللعيد قبل دخول رمضان؛ مع الاقتصاد في النفقة والبعد عن الاسراف في شراء الحاجيات ليبتعد عن الأسواق ولغطها ومنكراتها طيلة شهر رمضان؛ وليسلم مما يخرق صيامه؛ وليتفرغ لعبادة الله تعالى في رمضان كله، فلا يضيع منه شيئاً أبدًا.
وخَلائِقُ الصَّومِ العَجِيبَ كَثِيرِةٌ
فَلَا تَنْتَهِي تَقْوى وَقَدْ عَظُمَ الصَّبرُ
وَفِيهِ جِهَادٌ للنُفُوسِ وَمُتْعَةٌ
وِفِيهِ تَرَاتِيلٌ وَمَا نَقَصَ الأَجْرُ
هذا ما تيسر إيراده، وتوفر إعداده، وأعان الله على ذكره، فأسأل الله جل في علاه أن يبلغنا وإياكم شهر رمضان المبارك وأن يهله علينا وعليكم باليُمن والخير والبركات. كما أرجوه – سبحانه وتعالى- أن يُعيننا على صيامه وقيامه وأن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال.
وصلٍّ اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
حسن مهدي قاسم الريمي
مقالات سابقة للكاتب