(3) رأيت أن أترك الغرفة لأخي قائد الرحلة ليرتاح وينام فوراءه – بعد ساعة تقريباً – محاضرة جامعية وطلابه ينتظرونه والمفروض أن يأخذ قسطاً من الرحلة بعد عناء الطريق والسفر، فاستأذنته للخروج إلى الشاطئ فالجو نهاريٌّ دافئ، والشمس تختبئ تحت سحاب يروح ويجيء في جو السماء، والمكان فارغ من الناس، وكل ذلك يدعو لرياضة المشي التي إعدتها يومياً.
وها أنا في شاطئ (الدقم) التي تكسوه أشجار النخيل والرمال البيضاء الناعمة، والطبيعة البحرية بمياهها الزرقاء اللازوردية وأمواجها الخفيفة، وحدائقه الوسطية المرتبة والمزينة بأنواع الزهور!!
وقفت أمام ذلك المجسم الجمالي الذي يتوسط الطريق وهو عبارة عن شكل دائري أرضيته مركب شراعي برزقة البحر، وصارية ومجسم سمكة وأشعة الشمس في أحد الأطراف العلوية من الدائرة وسعف النخيل.. وتحيط به نصف دائرة مزروعة بالنخيل الجمالية كأرضية للمجسم الذي يدل – بكل تشكلاته – على الشاطئ ومحتوياته ويزين ذلك كله كلمة (أملج) في وسط المجسم!!
وقد أبدع الفنان الذي شكل هذه اللوحة الجمالية، وأتقنت البلدية اختيار الموقع ولكنه يحتاج إلى تجديد وإعادة تأهيل حتى يبرز في أحسن حلة تتماشى مع التطور الذي تعيشه هذه المحافظة الجميلة!!
لقد زرت (أملج) في العام 1437هـ، وقلت عنها: إنها مدينة قديمة تتجدد، وحديثة تسابق الزمن، مدينة يحملها النور إلى آفاق المستقبل أراه ندياً، فاعلاً، متألقا.
جئتها ضيفاً منشداً، وأعود منها شاكراً ومؤملاً أن تكون إحدى واجهات بلادي البحرية، وإحدى المدن السياحية، وإحدى المعالم الحضارية والآثارية، ففيها كل الإمكانات التي تجعلها كذلك.
واليوم – وأنا في أملج عام 1445هـ – أراها تسابق الزمن وتخطو إليه بثبات وخطط تطويرية، المنشآت الفندقية تزداد على شاطئ الدقم وما حوله، والعمالات تملأ المدينة لأن شركات التنمية والتطوير تعمل ليل نهار والشواطئ تزداد جمالاً وتنمية، والفعاليات الثقافية والمجتمعية تتوالى فرحاً وطرباً.
إن هذه المدينة/ الحلم، أصبحت تسجل حضورها البهي في كل مجالات العمل ثقافة، صحة، منشآت، سياحة، وآثاراً.
إنها مدينة تسجل إنجازاتها التي يشعر بها السكان فيفتخرون ويفاخرون بها والمستقبل لها – بإذن الله – أكثر من المتوقع في ظل قيادة واعية حكيمة، ورؤية وطنية تنموية قادمة – بكل تأكيد – وما 2030 عنا ببعيد!!
وهكذا أخذتني هذه الجولة الرياضية إلى تخوم الذكريات والماضي، لكنها قادتني أيضاً إلى الواقع والمستقبل، وعبر كل هذه الإرهاصات والتجليات على هذا الشاطئ الجميل ترنمت ببعض الأبيات الشعرية على أنموذج (الكسرة) التي تشتهر بها الفنون الآدانية في أملج ومدن الساحل الغربي بشكل عام، قلت فيها:
على شط البحر تختال أملج
وتروي للوطن يوم البدايات
********
نقول احنا مع التاريخ في مدرج
بنينا المجد على طول المسافات
********
مشينا مع أول من بنى المنهج
مؤسس دولة فيها الحضارات
********
وحتى اليوم بالدعوات نلهج
ونرفع في السما رايات راياتي
********
سلام الله على أملج وأهل أملج
ومن جازان أهديكم تحياتي
(4) وبعد ساعة وأكثر، عدت للفندق، لأجد صديقي الدكتور ناصر قد استيقظ واستعد للذهاب للجامعة فطلابه بانتظاره وهو الحريص على إفادتهم واللقاء بهم وأداء الأمانة التعليمية التي تحملها وهو أهلٌ لها. بارك الله في علمه وجهوده. وبعد أداء صلاتي الظهر والعصر جمعاً وقصراً خلوت بنفسي لأستريح من عناء الرحلة والجولة الشاطئية وهذا ما كان خلال الساعتين قبيل وقت العصر وعودة الدكتور ناصر من الجامعة لنلتقي سنوياً على مائدة الغداء التي كانت بقايا الإفطار (المرسة) التي تناولناها في الطريق!! ولعمري كانت أحلى الغداءات التي مرت علينا أنا وصديقي وزميل الرحلة الدكتور ناصر الحميدي والتي لن ننساها فهي في سجل العمر والتاريخ!!
وبعد العصر زارنا الأستاذ مساعد بن حمزة القوفي المشرف على الصالون الثقافي بديوانية المناخة التراثية، للتعارف والتآلف وبعد الشاي والقهوة أخذنا بسيارته في جولة تعريفية في البلدة القديمة وبعض أسواق أملج وصولاً إلى المتحف التراثي لصاحبه اللواء الدكتور مساعد بن سلامة الفايدي (يرحمه الله) الذي أنشأه عام 2015م = 1435هـ.
وقد سبق لي أن زرته أثناء جولتنا مع جمعية الأدب في زيارتنا لمحافظة ينبع وكتبت عما شاهدته فيه من مقتنيات شخصية، وتراثيات قديمة، وكانت في تنظيم مبهر، وبشكل جميل، مما جعله موقعاً سياحياً يؤمه الكثير من زوار أملج وأهل السياحة فيها.
ولكني أضيف هنا أنه سمي بـ(المناخة) لأن هذا الموقع الذي هو فيه اليوم كان (مناخاً) للإبل (تنوخ) فيه أي تجلس وترتوي من بئر ماء أثرية قديمة في نفس الموقع. وهذا (الاسم) يذكرنا بـ(مناخة) المدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام.
ويبدو على المتحف الصبغة العسكرية، لأن صاحبه رجل عسكري وصل رتبة (لواء ركن) في قيادة قطاع حرس الحدود بالمنطقة الشرقية إلى أن تقاعد في العام 1433هـ، فاستثمر تقاعده وأنشأ هذا المتحف الذي افتتحه في العام 1435هـ/ 1436هـ/2015م.
ويحتوي المتحف أول ما تدخله على عدة أجنحة، ففي المدخل نجد قاعة المقتنبات الشخصية من شهادات ودروع وأوسمة وهدايا تذكارية ولوحة تعريفية بالمتحف وصاحبه. وفي القاعة اليمنى نجد المكتبة التاريخية والملابس الشعبية وسجل الزيارات الذي تشرفت وسجلت فيه كلمة بمناسبة هذه الزيارة. وفي الجناح الأيسر نجد القاعة الكبرى التي تحتوي على الأسلحة من بنادق وسيوف وخناجر، وتراثيات قديمة ومنحوتات حجرية وعملات معدنيَّة وورقية وغيرها.
وفي جناح خارجي نجد السيارات القديمة، والصحف وبعض أنواع الأشجار والنباتات النادرة. وكل ذلك في تنظيم وتبويب متحفي جعلت منه متحفاً سياحياً معترفاً به من قبل وزارة السياحة.
ولعل أبرز وأندر الموجودوات والمقتنيات في هذا المتحف:
– الخناجر الحجرية التي تعود للعهد الحميري.
– العملة السعودية التي لم يتم تداولها بل كانت عملة تذكارية تعود للعام 1354هـ.
– عظام الديناصور لأكثر من 65 مليون سنة اقتناها منذ 40 سنة مضت.
وقد رافقنا في هذه الجولة الأستاذ أحمد بن مساعد الفايدي ابن صاحب المتحف الذي أتحفنا بروحه المرحة، ومعلوماته الوافية الكاملة عن كل جزء من محتويات المتحف فله كل الشكر والتقدير.
وفي نهاية الجولة تعرفنا على مجموعة من الإخوة الشعراء والمثقفين ورجال أملج البارزين الذين استضافونا على مائدة من الأحاديث الثقافية الوافرة، ومعالم من أملج البارزة وقصص من التقدم والتطوير ماتعة، ثم أولموا بنا على مائدة عشاء فاخرة فلهم جزيل الشكر والثناء الجميل.
د.يوسف حسن العارف
مقالات سابقة للكاتب