يقول العرب “بَلَغَ السَّيْلُ الزُّبَى” إِذا اشتدّ الأمر حتى جاوز الحدّ ، وهي الأوقات التي تصل فيها الأمور إلى حد لا يمكن السكوت عليه، فينفد الصبر.
وقد ينفجر الشخص قائلًا: “بَلَغَ السَّيْلُ الزُّبَى”، ولا يمكن أن أصمت بعد الآن.
قفز هذا القول إلى ذهني مباشرة بعد حوار مع أعز أصدقائي اليوم في شقتي ؛ هذا الصديق لديه مشاكل عميقة مع أخوته حتى أنّ طرق التواصل بينهم أصبحت شبه معدومة ، والأسباب التي أدت إلى هذا الحال معقدة جداً وغير مفهومة وصعبة التعليل.
أكثر من سبع سنوات وصديقي يسرد علي بحرقة حاله مع أخوته ويلقي باللوم الدائم عليهم.
حاولت أن أساعده وأقدم له الكثير من الحلول ولكنه لا يقبل بأي منها ويكاد في كل مرة نلتقي بها يعيد علي هذه ( الإصطوانة المشروخة) كما يقال بالعامية.
اليوم وبعد حديث قوي بيننا تفاجأت أنه يقول ” أنا دعوت ربي أن لا يجمع بيني وبين أخوتي لا في الدنيا ولا في الآخرة؟!” لقد صعقت وذهلت من هذا الدعاء الغريب؟!
فقلت له ” ألم تقل لي أنك تحب أخوتك وهم لا يبادلونك الحب؟!”
فقال لي : نعم ولكنني لا أريد أن ألتقي بهم في الدنيا فأرى بعيني كرههم لي ؛ فإن ذلك سيؤلمني جداً وإذا دخلنا الجنة بمشيئة الله أريد أن يكون كل منا بعيد عن الآخر؟!.
وبعد محاولتي المستميتة لرأب الصدع بينه وبين أخوته كعادتي لسنوات مضت أخذ يعيد لي نفس الحوار الذي حفظته عن ظهر قلب.
حينها قلت له يا صديقي الغالي لم يبقَ لي قوة على الصبر على الاستماع لقصتك مع أخوتك.
إن كمية الطاقة السلبية التي تنفثها في قلبي وفكري خلال تلك السنوات موجعة جداً ، فلا أنت بالذي عفوت عن أخوتك ولك الأجر من الله ، ولا أنت بالذي رحمتني من هذه المعاناة التي تفجّرها في وجهي في كل لقاء يجمعنا.
ياصديقي كل إنسان في هذه الحياة يحتاج إلى صديق مرح متفائل يساهم في تذليل الصعاب التي تواجهه ويحفّز بحديثه وأفكاره العقل والروح ليساهم في تجاوز وتخطي الصعاب.
يا صديقي إن آلام ومعاناة القصص التي حدثتنيها طيلة تلك السنوات عن أخوتك بدأت تحفر أخاديد موجعة ومؤلمة في قلبي وفكري .
باختصار لم أعد أحتمل سماع تلك القصص مجدداً فقد (بَلَغَ السَّيْلُ الزُّبَى)فهلاّ رحمتني يرحمك الله.
ومن هنا أحببت أن أنبه على أمر عظيم يغفل عنه كثير منا ، وخطب جليل يتهاون فيه بعضنا ؛ ألا وهو قطيعة الرحم ، وما أدراك ما قطيعة الرحم ، فوالله وبالله وتالله لهي المهلكة القاصمة ، ولهي المردية القاضية الهادمة ، فمن أين لقاطع الرحم براحة البال والطمأنينة ، ومن أين له التوفيق والنجاح والسعادة ، ومن أين له أبواب الخير وقد أغلقت في وجهه أبواب السماء ، وهي التي قال الله لها : ( ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك ) ، فأي ضياع للعبد وأي خسران ، وأي ترك له وأي هجران ، بعد قطيعة الله له والتخلية بينه وبين شيطانه وهواه.
أيها الحبيب قطيعة الرحم كبيرة من كبائر الذنوب ؛ تحجب عن الإنسان كل أبواب الخير والسعادة ، وتفتح عليه كل أبواب الشر والتعاسة ، ولتنصت أخي الحبيب إلى قوله تعالى:( فهل عسيتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم) ؛ فقد جعلها الله من الإفساد في الأرض ، ورتب عليه الطرد والإبعاد من رحمة الله ، وإغلاق السمع والقلب عن الانتفاع بالنصح والتوجيه ، وإعماء البصيرة عن رؤية الحق والخير .
وقد جاء عن نبينا صلى الله عليه وسلم :( إن أعمال بني آدم تعرض كل يوم خميس ليلة الجمعة ، فلا يقبل عمل قاطع رحم ).
ولتعلم أخي الحبيب أن الواصل ليس هو المكافئ الذي يصل من وصله ويقطع من قطعه ، ويحسن لمن أحسن إليه ، ويسيء لمن أساء له ، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس الواصل بالمكافئ ، ولكن الواصل من إذا قطعت رحمه وصلها ).
والحديث المشهور أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن لي قرابة أصلهم ويقطعونني ، وأحسن إليهم ويسيئون إلي ، وأحلم عنهم ويجهلون علي ، فقال صلى الله عليه وسلم : لئن كنت كما قلت ، فكأنما تسفهم المل ، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك).
فمن أساء إليك يا أخي الحبيب فلتحسن إليه ، ومن ظلمك فلتعفو عنه ، فلابد وأن يلين لك في يوم من الأيام ، ويعرف لك حقك وفضلك طال الزمن أو قصر وكما قال الشاعر :
أحسن إلى الناس تستبعد قلوبهم
لطالما استعبد الناس إحسان
وأفضل منه وأعظم قوله تعالى: ( ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ولا يلقاها إلا الذين صبروا ولا يلقاها إلا ذو حظ عظيم ) جعلني الله وإياك منهم أيها الحبيب الغالي.
ومن هنا يتبين لنا أيها الأخ الحبيب أن المسلم يجب عليه أن يصل قرابته ولو قطعوه وليحتسب الأجر من الله وليتأكد وليتيقّن بأن الله ناصره ومعينه ومكافئه ومثيبه في الدنيا قبل الآخرة ، فالصلة والقطع من الأمور التي يعجل للإنسان فيها الثواب والعقوبة في الدنيا قبل الآخرة ، وأي ثواب أعظم من راحة البال وسعادة القلب وهذه لا تحصل لقاطع ، وأي عقوبة أعظم من الطبع على القلب والطرد من رحمة الله وإعماء البصيرة عن الحق وإحباط الأعمال وهذه لا تصيب واصل بإذن الله ، والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم.
نوار بن دهري
[email protected]
مقالات سابقة للكاتب