مع توافد أخبار الوفيات مكثتُ اليوم أتفكر في معنى من المعاني التي أولِعَ الشعراء الكبار عبر التاريخ بإيراده في مراثيهم، وهو من المعاني المباشرة الصادِقة التي يشعر بها كل من فارق حبيبًا قريبًا عاش في كنفه، وخالَطه مخالطةً عميقة، ثم فارقه فراقًا أبديًّا بالرحيل إلى الدار الآخرة!
والمعنى المقصود يمكن تلخيصه بالآتي: (لم أكن أصبر على الفراق الدنيوي المؤقت، فكيف أصبر على هذا الفراق الأبدي بالموت؟!)، فهذا المعنى على سهولته وقُربِه تفنَّن في ذكره عدد من الشعراء الكبار، وذلك بأساليب شتى، ولو قيل: إنهم ذكروه دون أدنى محاكاةٍ أو إغارة بعضهم على بعض لما كان ذلك بعيدًا، وذلك لأنه معنى فطري صادق ملقًى على قارعة النفوس البشرية، فلا يفتقر لموهوب يمهِّد الدرب، ولا لمبتكر يوطِّد الطريق!
فعلى سبيل المثال يقول أبو الطيب المتنبي في طيات رثائه لجدته التي فجع برحيلها في حياته المليئة بالمغامرات:
وَكُنتُ قُبَيلَ المَوتِ أَستَعظِمُ النَّوى
فَقَد صارَتِ الصُغرى الَّتي كانَتِ العُظمى!
يعني أن (الفراق الدنيوي) الذي كان عظيمًا في قلبه أمسى اليوم يسيرًا إذا ما قورن بـ(الفراق الأبدي) بالموت!
ويقول شوقي عن حالِهِ مع وَلَدَيه حينما تشبَّثا بثيابه وهو خارج من بيته في زيارة يسيرة:
بكيا لأجلِ خُروجه في زَورَةٍ
يا ليت شِعري كيفَ يومُ فِراقِهِ؟!
********
لو كان يسمَعُ يوم ذاك بُكاهُما
رُدَّتْ إليهِ الرُّوحُ من إشفاقه!
ويقول الجواهري في قصيدته الشجيَّة في رثاء زوجته أم فرات:
قد يقتل الشوق من أحبابه بَعُدوا
عنه، فكيف بمن أحبابه فُقِدوا؟!
وهذا المعنى الصادق ليس من جملة معاني الرثاء الصالحة للشخصيات العامة، وإنما هو مناسب لكل من كان بينه وبين الشاعر علاقة وطيدة ومخالطة عميقة وصلة مستمرة كرحمٍ أو قرابة أو صداقة كـ”جَدَّة” أبي الطيب و”ابني” شوقي و”زوجة” الجواهري!
مع توارد هذه الأبيات الصادقة جالَ ذهني بعيدًا، وأخذت أتفكر هل ورد في القرآن العظيم مثل هذا المعنى العميق ولو في سياقٍ آخر؟ هل جاءت المقابلة القرآنية بين (فراق يسير، وفراق أبدي)؟
والجواب أن الإشارة القرآنية إلى هذه المقابلة (بين فراقين) جاءت ضمنًا في أكثر من موضع في سياق مختلف ..
من ذلك قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون) ذكر بعض المفسرين أن المراد بذكر الله هنا هو أداء الصلوات، ففي الاشتغال بذكر الله تعالى وأداء الصلوات (فراق يسير للأموال والأولاد)، فيذكر سبحانه وتعالى أن من تجافى عن هذا (الفراق اليسير المؤقت)، فهو متوعد بـ(فراق أبدي سرمدي) لمن أحبّ من الأولاد، فيقول تعالى: (ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون) قال ابن كثير: أي الذين يخسرون أنفسهم وأهليهم يوم القيامة. وخسرانهم الأهل يكون بفراقهم فراقًا أبديًّا!
والحصيف العاقل هو من آثرَ (فراقًا يسيرًا) مؤقتًا دفعًا لـ(ـفراقٍ أبديٍّ) لا ينقطع!
د. سليمان بن ناصر العبودي
مقالات سابقة للكاتب