عليك بالقول دون القائل!

🖋️ ‏يشيع بين المعاصرين المشتغلين بمجال الفكر والثقافة مفهوم: (عليك بالقول دون القائل)، وتُورد أمثال هذه العبارة عادة في سياق المطالبة بالحكم على المقولات بمعزل تامٍّ عن أصحابها، وتُذكر في سبيل المبالغة والمغالاة في توخي العدل والإنصاف، وفي الحقيقة أن جزءً من هذه الفكرة صحيح لا غبارَ عليه، فيجب علينا أن لا نردَّ حقًّا لأجل قائله ولو كان مبطلًا، وإنما يؤخذ الحق إن وجد من كل أحد، لكن المبالغة في تطبيق هذه المقولة على تفريعات كثيرة يوقع في إشكالات علمية كثيرة.

‏فحينما يقول الملحد -مثلا-: (يجب أن لا نقدِّس غير المقدَّسات)، فكل العقلاء الذين يسمعون عبارته لا يفهمون مراده منها كما لو نطقها بحروفِها مسلمٌ موحد لله، وإنما تعريف هذا الملحد للمقدسات يلقي بظلالِه فورًا على أبعادِ معنى هذه العبارة، وذلك لأن مقالات الناس ليست معلَّقةً في الهواء تسرح في أجوافِ طير خُضر، وإنما تنتسب لمحسوسين لهم مقاصد وأغراض يدل عليها السياق ..

‏فالذين يبالغون في معنى هذه العبارة: (عليك بالقول دون القائل) يتجاهلون كون الكلام يُفهم ابتداءً بالنظر في سِياقه، ومن السياق الذي يُغفل عنه هنا: القائل وحاله، فليست السياقات كلُّها لفظيَّة كما يُتَوهَّم، وإنما كما يقول ابن تيمية: (الحسُّ والعقل ومعرفة مراد المخاطب قرينة متصلة تضم إلى الكلام) ..

‏ولهذا لما بلغ الإمامَ أحمد عن رجلٍ أنه ذُكر عنده أهل الحديث بمكة، فقال: قوم سوء. فقام الإمام أحمد، وهو ينفض ثوبه، ويقول: (زنديق، زنديق، زنديق) ودخل بيته. فلم يستصحب أبو عبدالله رحمه الله في إطلاق هذا الحكم على ابن أبي قتيلة عبارتَه وحدها ولم يجعل الحكم على المقولة بمعزل عن حال القائل، وإنما نفذ لمراده منها، لذا قال ابن تيمية بعدما أورد حكم أحمد على ابن أبي قتيلة: (إنه عرف مغزاه!) ..

‏وقال ابن القيم في مدارج السالكين مبينًا استحالة انفكاك الحكم على القول عن الحكم على القائل: (الكلمة الواحدة يقولها اثنان يريد بها أحدهما أعظم الباطل ويريد بها الآخر محض الحق، والاعتبار بطريقة القائل وسيرته ومذهبه وما يدعو إليه ويناظر عليه)، وأشار لهذا المعنى بحروفٍ قريبة منه أيضا أبو العباس في الصارم  المسلول ..

‏وحتى هؤلاء الذين يتحمَّسون لهذه القاعدة ويكررونها؛ هم لا يطبقونها في كل الأحوال، وإنما يستصحبون حال القائل كثيرًا، لأنه معنى فطري يتعذَّر نفيه وتصعب مكابرته، بل حتى الطرائف والنوادر إنما تُستحسن إذا أضيفت لقائليها واستُصحبت أحوالهم، فربما استظرف الناس اليوم عبارةً لأنها أضيفتْ إلى أحد الظرفاء، ولو نُقِلت عن سواه لتبارَدوها ولم يستظرفوها، وإنما حال القائلين يلقي بظلاله حتمًا على المقولات ..

‏وأشار إلى هذا المعنى الفطري أبو عثمان الجاحظ فقال -في كتابه البخلاء-: (ولو أن رجلا ألزق نادرة «بأبي الحارث جمّين» «والهيثم بن مطهر» و «بمزبّد» «ابن أحمر» ثم كانت باردة، لجرت على أحسن ما يكون ، ولو ولّد نادرة حارّة في نفسها، مليحة في معناها، ثم أضافها إلى «صالح بن حنين» وإلى «ابن النواء» وإلى بعض البُغَضاء، لعادت باردة، ولصارت فاترة، فان الفاتر شرّ من البارد، وكما أنك لو ولّدت كلاما في الزهد، وموعظة الناس، ثم قلت: هذا من كلام «بكر بن عبد الله المزني» و «عامر بن عبد قيس العنبري»، و «مؤرق العجلي» و «يزيد الرقاشي ، لتضاعف حسنه، ولأحدث له ذلك النسب نضارة ورفعة لم تكن له، ولو قلت: قالها «أبو كعب الصوفي» أو «عبد المؤمن» أو «أبو نواس» الشاعر أو «حسين الخليع» لما كان لها إلا ما لها في نفسها، وبالحري أن تغلط في مقدارها، فتُبْخس من حقّها) ..

‏وما ذكره الجاحظ هنا هو معنى فطريُّ صميم، لا يتعارض مطلقًا مع تطبيقات الناس وطرائق تفكيرهم، وإنما يتعارض فقط مع تنظيرات بعض المعاصرين الموغلةِ في التنظير، والمبالِغة في التجريد!

 

 

د. سليمان بن ناصر العبودي

مقالات سابقة للكاتب

تعليق واحد على “عليك بالقول دون القائل!

أحمد بن مهنا الصحفي - أم الجرم

من أثرى المقالات وأمتعها !
هو بذاته شاهد على ارتباط القول بقائله … فهذا المقال مرجع يُرحع إليه لمن احتاج، في محتواه الذي زاده قيمة ارتباطه بكاتبه، وحقيقة لايحيد عنها محق لأي سبب كان أن القول مرتبط بقائله على اختلاف نسبي ، فالقول المنقول يرتبط بالناقل وبالقائل ، وقد يرد مع قوته بسبب ناقله، ومن قواعد أهل الحديث أن جعلوا للمتن والمعنى قيمة معيارية في قبوله حينما يشكّون في ناقله ، أما إذا كان الرواة (الناقل) ثقات قبلوا القول بلا تردد،
ولست أعلق لأضيف إكمالا فما ترك كاتب المقال للإضافة حاجة ، فقد وفاه وكفاه !
لكنها نشوة الإعجاب وشعور الاستمتاع فقط دفعتني … شكرا شكرا للدكتور سليمان كاتب المقال 🌸

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *