مؤلم جداً أن تعيش طوال حياتك وأنت تظن أنك تنتمي الى مجتمع ما، ثم تستيقظ بعد مرور عشرات السنوات فتصطدم بالحقيقة المرة التي تود أنك لم تستيقظ ، هنا تتدلى أمام عينيك عشرات من عبارة ياليت وتود أن لو محيت هذه الكلمة أو العبارة من قاموس ومعجم كل اللغات واللهجات ومثلها عبارة ماذا لو، وأمثال هذه العبارات التي لا تجدي نفعاً بعد فوات الأوان وضياع العمر ومرور السنين بحلوها ومرها وأفراحها وأتراحها وشجونها تنظر حولك وتتلفت فإذا الكل غرباء حولك وكأن كل تلك السنين انما كانت مجرد حلم نعم حلم قابلت فيه أناس احببتهم وأحبوك ، اخوة مخلصون صادقون في الود وكذلك قابلت كل المخادعين الذين سخروا منك ومن صداقتك علاقتك بهم وعلاقتهم بك إنما هي مجرد مصالح لا غير هكذا هي الدنيا فلا تظن أن الناس يضحون براحتهم وهنائهم وسعادتهم من أجلك إن كنت متعباً وترزح تحت وطأة الهموم والأحزان فتحزن لهذا الأمر وهنا يتدخل عقلك وتتوارى عواطفك وتختبئ لأن دور العقل قد حان يهز عقلك هزاً عنيفاً أن أيها الغافل والغافي استيقظ من سباتك اصحو من نومة الأمل الضائع واعلم أنك لا تنتمي الى ما كنت تظن أنت غريب برغم كل القابعين حولك الذين يشعرونك في غفلاتك انك تنتمي اليهم ابداً انت غريب شئت ذلك أم أبيت هذه هي الحقيقة وللأسف أن اصفها بالمُرة ومهما كانت مرارتها فهي تظل حقيقة وعليك التعايش معها بكل ما فيها من مرارة وألم فستظل أفضل من الأوهام التي خدعت بها نفسك أو خُدعت بها أنت لا تنتمي لشيء أنت عبارة عن رقم لا يقبل القسمة لشئ أبدا لأنك وحيد وهنا أتذكر الصحابي الجليل أبا ذر جندب بن جنادة الغفاري رضي الله عنه وأرضاه عندما قال عنه المططفى ﷺ عندما رآه في غزوة تبوك بعدما ابطأته راحلته عن اللحاق بركب الصحابة فتركها وأخذ متاعه على كاهله فرآه الرسول الكريم ﷺ قادما من بعيد فقال كن أبا ذر فقالوا هو والله ابو ذر يا رسول الله فقال ﷺ ( رحم الله ابا ذر يمشي وحده ويموت وحده ويبعث وحده) هنا تذكرت غربته بين قومه بعدما لحق الرسول بالرفيق الأعلى وأحسست بغربته لأنه عاش غريبا في مجتمع رآه غريباً فمات وحده وسيبعث وحده مصداقا لقول الصادق المصدوق ﷺ فهو لا ينطق عن الهوى…
نعم سمعت صوت العقل وصوت الحقيقة تقول لي استيقظ ودع عنك الأماني العراض.
ورجعت بي الذكريات القهقرى وتذكرت جلوسي في المركاز انشد الشعر للرفقاء ارى الناس من حولي يستمعون لإنشادي وهم فرحون مغتبطون ولم يدر بخلدهم أنني انشد الشعر وانا أتألم أعاني كالشمعة تحرق نفسها لتضيئ للناس طريقهم وربما لأول مرة اعترف بهذه الحقيقة وكم تسائل الناس لم أنشد شعر إيليا أبو ماضي ولم يدر بخلدهم ولو لمرة واحده أن هذا الشاعر ينشد الشعر لغربته فقد ترك وطنه بعدما عضه الفقر ولوعته الحاجة فذهب الى مصر فازاد غربة فيمم ووجهه صوب أمريكا وهناك مات وأنا أعلم مدى ألمه عندما قال :-
قَومي وَقَد أَطرَبتُهُم زَمَناً
ساقوا إِلَيَّ الحُزن وَالكَمَدا
هُم عاهَدوني إِن مَدَدتُ يَدي لَيَمُد كُلُِّ فَتىً إِلَيَّ يَدا
قالوا غَداً تَهمي سَحائِبُنا
فَرَجَعتُ أَدراجي أَقولُ غَدا
وَظَنَنتُ أَنّي مُدرِكٌ أَرَبي
إِن غارَ تَحتَ الأَرضِ أَو صَعَدا
فَذَهَبتُ أَمشي في الثَرى مَرِحاً
ما بَينَ جُلّاسي وَمُنفَرِدا
تيهَ المُجاهِدُ نالَ بُغيَتُهُ
أَو تيهَ مِسكينٍ إِذا سَعِدا
ثم يصدم بالحقيقة المرة فيقول :-
لَكِنَّني لَمّا مَدَدتُ يَدي
وَأَدَرتُ طَرفي لَم أَجِد أَحَدا
وبرغم ذلك فهو شاعر الأمل والإباسامة والذي دائما ما يدعوا الناس الى التفائل وأن لا يسلموا لليأس قيادهم فيهلكوا فيقول :-
قال الليالي جرَّعتني علقماً
قلت ابتسم ولئن جَرَعتَ العلقما
فلعلَّ غيرك إِن رآك مُرنَّماً
طرح الكآبةَ جانباً وترنَّما
أَتُراك تغنمُ بِالتبرُّمِ درهماً
أَم أَنت تخسرُ بالبشاشةِ مغنما
شاعر الأمل والإبتسامة في وجه الخطوب
نعم أحس انا بالغربة كما احسها ذلك الشاعر وأدعوا الى التفاؤل كما كان يدعو…
وحقيقة لا أريد من أحد من الناس أن يتهمني باليأس والتجني على الناس ابدا فقد شارفت على الستين وصقلتني التجارب فليس هناك ثم مكان للمجاملات أو التجني فليس ما بقي من العمر قدر ما ذهب منه وأنا هنا لا بد أن أكون منصفا فقد استمع لي الناس وانا انشد الشعر وأعجبوا بإلقائي وربما أعطوني فوق ما استحق من الاطراء فشكرا لهم ولكن هذا لا يمنع من انني اذا خلوت بنفسي احسست بالغربة فآثرت في أواخر عهدي الوحدة والتأمل والتفكر في ملكوت الله ومراجعة النفس وكم وضعت إحدى يدي على قلبي خشية أن ينفطر ومددت اليد الأخرى الى مالكي وخالقي وربي طالباً منه العون والمدد والغوث…
نعم ستون عاماً وأنا أحس بالغربة وعدم الإنتماء لشىء سوى الإسلام وكفى به إنتماء وهذا ما يخفف عني غربتي…
العالم يريدك مبتسما دائما ولا يدري ما بداخلك اضحك وانا بين الناس واذا خلوت ضحكت من نفسي وحزنت عليها في آنٍ واحدة ستون عاما أو ما يقرب وأنا أفتش عن شيء ضاع مني ولست من اضاعة ستون عاما اتلفت يمنة ويسرة وأترقب قدوم شيء ما انتظره ولا أدري ما هو أو أنني أدري واتجاهل لكي تمضي الحياة قدما لست من صنع قدري لست من اضاع من يدي الفرص انما هي الأقدار وأنا في قرارة نفسي أأمن بالأقدار وفي النهاية وبرغم كل شيء اتطلع الى عفو ربي ومغفرته والتجاوز عن الأخطاء التي ارتكبتها وأنا من كلي اخطاء ربما تكون هي من الاسباب في غربتي تلك فاللهم غفرانك.
إبراهيم يحيى أبو ليلى
مقالات سابقة للكاتب