أصدق خطبة في التاريخ

   ‏﷽

عندما نقول ونصف خطبة حجة الوداع أو حجة البلاغ بأنها أصدق خطبة قيلت في تاريخ الإنسانية قاطبة فإننا بذلك لا نبالغ ولا نقول كلاماً مرسلاً او انشائياً لا دليل عليه بل هي حقيقة يراها كل ذي عينين وبصر وبصيرة اذا أزاح الغشاوة عن عينيه وقلبه وعقله وكيف لا تكون كذلك وقائلها هو خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد بن عبدالله ﷺ بأبي هو وأمي، وهو لا ينطق عن الهوى بل نبي يوحى اليه من قبل خالقه ومرسله الله جل جلاله وتقدست اسمائه وصفاته (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا) (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا)

هناك وقف العالم كله بحيواته وجماده وبحاره وأنهاره ونجومه وأقماره ومجراته وقف ينصت بكل اهتمام فمحمد ﷺ يوشك أن يلقي على العالم خطبة لم يسمع التاريخ قبلها ولن يسمع بعدها خيراً منها أبداً …. 

ففي السنة العاشرة للهجرة بعد أن أقام الرسول في منىً يوم الثامن من ذي الحجة ( يوم التروية) يمم ﷺ وجهه صوب مشعر عرفات في اليوم التاسع ووقف على جبل الرحمة هناك وألقى في جموع المسلمين الذين حجوا معه من المهاجرين والأنصار والقبائل التي أسلمت وبايعته وقف يخطب في مائة واربعة عشر ألفاً من المسلمين تلك الخطبة التي لخصت الدين في كلمات قليلة ووضع للأمة الجديدة قواعد ودستور وتعاليم الإسلام كيف لا وهو الذي أعطي جوامع الكلم فقال – :«أيها الناس : إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم ، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا ، في بلدكم هذا ، وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم ، وقد بلغت ، فمن كانت عنده أمانة فليردها لمن ائتمنه عليها.

ثم قال (ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية موضوع تحت قدمي ، وإن أول دمائكم أضع ، وفي رواية : وإن أول دم أضع من دمائنا دم ربيعة ، وفي رواية : دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ، وكان مسترضعا في بني سعد بن بكر فقتلته هذيل) الله أكبر هكذا يصنع الاسلام الزعماء فلا محاباة أو وسائط لتعطيل شرع الله اليس هو القائل (إنَّما أهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ، أنَّهُمْ كَانُوا إذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وإذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أقَامُوا عليه الحَدَّ، وايْمُ اللَّهِ لو أنَّ فَاطِمَةَ بنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا.) فالزعيم الحق المنصف الذي يريد ان يقيم دولة العدل اول ما يطبق الحدود على نفسه وأهل بيته….

ثم قال(وإن كل ربا موضوع ، ولكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون قضى الله أنه لا ربا ، وإن أول ربا أضع ربا العباس بن عبد المطلب ، فإنه موضوع كله) (أيها الناس الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه أبدا ولكنه إن يطمع فيما سوى ذلك فقد رضي بما تحقرون من أعمالكم فاحذروه على دينكم) « أيها الناس : اتقوا الله واستوصوا بالنساء خيرا ، فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهم شيئا وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله» (فاعقلوا أيها الناس قولي- فإني قد بلغت- وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعدي أبدا- إن اعتصمتم به- أمرين ، وفي رواية أمرا بينا كتاب الله عز وجل وسنة نبيه- صلى الله عليه وسلم) (أيها الناس اسمعوا قولي واعقلوه ، تعلمن أن كل مسلم أخ لمسلم ، وفي رواية : أخو المسلم وأن المسلمين إخوة ، فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس ، فلا تظلمن أنفسكم) (أيها الناس : إن الله قد أدى لكل ذي حق حقه ، وإنه لا يجوز وصية لوارث ، والولد للفراش ، وللعاهر الحجر ، ومن ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه ، فعليه لعنة الله ، والملائكة ، والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا ، العارية مؤداة ، والنحلة مردودة ، والدين مقضي والزعيم غارم) 

«وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون ؟ » قالوا : نشهد أنك بلغت ، وأديت ، ونصحت ، فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها على الناس «اللهم اشهد ، اللهم اشهد ، اللهم اشهد» . 

ثلاث مرات…. 

هذا ملخص لخطبة حجة الوداع أو حجة البلاغ ومن اراد الاستزادة منها فعليه بكتب الصحاح وكتب التاريخ والسيرة النبوية. 

والآن بربكم خبروني عن شخص لخص الدين كله في خطبة فيا خطباء ويا أيها المتكلمون من فلاسفة واساتذة وعلماء البلاغة واللسان وكتاب وشعراء ألا تقفون إجلالا وإكباراً وتطأطئون رؤسكم وهاماتكم أمام هذا الطود الشامخ الذي يطاول الجوزاء فمن يأتي برجل في كل حضارات الإنسانية بمثل محمد ﷺ وضح تعاليم الإسلام الذي جاء من قبل رب الأنام ليخرج الناس من ظلمات الجهل إلى نور العلم هذه التعاليم التي من تمسك بها واتخذها دستور حياة نجا ومن حاد عنها خاب وخسر الدنيا والآخرة وهلك… 

يقول امير الشعراء احمد شوقي :-

وَإِذا خَطَبتَ فَلِلمَنابِرِ هِزَّةٌ

تَعرو النَدِيَّ وَلِلقُلوبِ بُكاءُ

********

جَرَتِ الفَصاحَةُ مِن يَنابيعَ النُهى

مِن دَوحِهِ وَتَفَجَّرَ الإِنشاءُ

********

في بَحرِهِ لِلسابِحينَ بِهِ عَلى

أَدَبِ الحَياةِ وَعِلمِها إِرساءُ

********

أَتَتِ الدُهورُ عَلى سُلافَتِهِ وَلَم

تَفنَ السُلافُ وَلا سَلا النُدَماءُ

********

أَنتَ الَّذي نَظَمَ البَرِيَّةَ دينُهُ

ماذا يَقولُ وَيَنظُمُ الشُعَراءُ

ويقول :-

فما عرف البلاغة ذو بيان

اذا لم يتخذك له كتابَا

الله أكبر دين بدأ بنفر لا يجاوزون عدد أصابع اليد الواحدة في السر وخوفاً من قريش الباغية وجبروتها وطغيانها أن تفتنهم عن دينهم ومارسوا ضد اتباعه كل أنواع الظلم والجبروت من قتل وتعذيب وتشريد واتهامات باطلة ووصف يحمل الإفتراء والكذب فمرة يتهمونه بأنه شاعر ومرة ساحر ومرة مجنون ويصمون اصحابه بالصابئين المارقين عن دين قومهم هي حُجة المفلسين الذين ليس لهم حُجة واضحة يستطيعون أن يقارعوا الحُجة بالحُجة طاردوه وأتباعه في شعاب مكة ووديانها ليصدوا الناس عنه وعن دينه ولكن هيهات فالشمس لا تحجب بغربال فأولئك النفر من أصحاب محمد ﷺ ورضي الله عنهم قد باعوا أنفسهم لله فلا ولن يثنيهم عما عقدوا العزم على إتمامه لا ترهيب ولا ترغيب ولو حركت قريش جبال الأرض ضدهم لم يحيدوا عن مبادئهم ودينهم وما باعوا انفسهم له…..

يقول شوفي :-

هَل كانَ حَولَ مُحَمَّدٍ مِن قَومِهِ

إِلا صَبِيٌّ واحِدٌ وَنِساءُ

********

فَدَعا فَلَبّى في القَبائِلِ عُصبَةٌ

مُستَضعَفونَ قَلائِلٌ أَنضاءُ

********

رَدّوا بِبَأسِ العَزمِ عَنهُ مِنَ الأَذى

ما لا تَرُدُّ الصَخرَةُ الصَمّاءُ

********

وَالحَقُّ وَالإيمانُ إِن صُبّا عَلى

بُردٍ فَفيهِ كَتيبَةٌ خَرساءُ

********

نَسَفوا بِناءَ الشِركِ فَهوَ خَرائِبٌ

وَاستَأصَلوا الأَصنامَ فَهيَ هَباءُ

يقول شوقي ايضا في هجرة الرسول ﷺ وصاحبه أبي بكر الصديق رضي الله عنه :-

سل عصبة الشرك حول الغار سائمةً

لولا مطاردة المختار لم تسم

********

هل أبصروا الأثرالوضّاء أم سمعوا

همس التسابيح والقرآن من أمم

********

فأدبروا ووجوه الأرض تلعنهم

كباطل من جلال الحقّ منهزم

********

لولا يد الله بالجارين ما سلما

وعينه حول ركن الدين لم يقم

********

تواريا بجناح الله واستترا

ومن يضمّ جناح الله لا يضم

نعم يا من يتفاخرون بالمصلحين والثوار في كل العالم ويرفعون عقيرتهم بجيفارا وغيره من الثوار هل هناك رجل دل العالم واخرجه من تيهه والظلمات التي عاشت فيها الامم مثل سيدنا محمد ﷺ فيا منصفون ويا أحرار العالم بربكم اجلوا الغشاوة عن اعينكم وقروا واعترفوا بالحق والحقيقة :-

المصلحون اصابع جمعت يد

هي انت بل انت اليد البيضاء

********

لَمّا دَعَوتَ الناسَ لَبّى عاقِلٌ

وَأَصَمَّ مِنكَ الجاهِلينَ نِداءُ

********

أَبَوا الخُروجَ إِلَيكَ مِن أَوهامِهِمْ

وَالناسُ في أَوهامِهِمْ سُجَناءُ

********

وَمِنَ العُقولِ جَداوِلٌ وَجَلامِدٌ

وَمِنَ النُفوسِ حَرائِرٌ وَإِماءُ

تأملوا معي بربكم رجل يبلغ من الرفعة الى سدرة المنتهى في مكان لم يبلغة ملك مقرب أو نبي مرسل ما بلغه محمد بن عبداللهﷺ ثم ينزل الى أرض الناس فينام فقوق حصير يترك في جسده الشريف الأثر الضاغط عليه ﷺ ويدخل عليه بعض الأعراب فيهابه وهنا تتجلى أخلاق النبي الكريم ويبتسم في وجوه من هابه لجلالة قدره فيقول في تواضع ليس كتواضع من يصطنع التواضع بل حقيقة خلقه فيقول (هونوا عليكم انما انا ابن أمرأة كانت تأكل القديد بمكة) الله أكبر حقاً رجل صنعه الله على عينه فهل بعد هذا يجد المتكبر المغرور كائناً من كان في نفسه شيئا من غرور واستعلاء أيها الناس تعلموا من محمد النبيﷺ التواضع وخفض الجناح وهو الذي يقول (جئت لأتمم مكارم الأخلاق)….. 

يا مَن لَهُ الأخلاقُ ما تَهوى العُلا

مِنها وَما يَتَعَشَّقُ الكُبَراءُ

********

لَو لَم تُقِم دينًا لَقامَت وَحدَها

دينًا تُضيءُ بِنورِهِ الآناءُ

********

زانَتكَ في الخُلُقِ العَظيمِ شَمائِلٌ

يُغرى بِهِنَّ وَيولَعُ الكُرَماءُ

نعم إنها خطبة الوداع أو خطبة البلاغ وعلى إثرها نزلت الآية (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) وفيها نعى القرآن رسول ﷺ وأكمل الله دينه واليوم وبعد ما يزيد على ١٤٠٠ عام هاهم جموع المسلمين الذين بلغ عددهم ٢ مليار مسلم تقريبا يولون وجوههم صوب مكة ويرفعون ايديهم بأن الله أكبر ويهتفون جميعاً بلا إله إلا الله محمد رسول الله ﷺ…. 

إنهم يلبون دعوة ابيهم إبراهيم عليه السلام وهو كان يدعو للتوحيد الخالص الذي لا يشوبه شرك ابداً قال الله تعالى (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) 

وقد صدق شاعر الاسلام محمد إقبال رحمه الله تعالى حين قال :-

وفي التوحيد للهمم اتحاد 

 ولن تبنوا العلا متفرقينا

********

ألم يبعث لأمتكم نبي 

 يوحدكم على نهج الوئام

********

ومصحفكم وقبلتكم جميعاً  

منار للأخوة والسلام

********

وفوق الكل رحمنٌ رحيمٌ 

إله واحد رب الأنام

نعم يرفعون أصواتهم بتوحيد الله تعالى ( لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك لبيك)

إبراهيم يحيى أبو ليلى

مقالات سابقة للكاتب