المثير والإستجابة

تتفاجأ أحيانًا وأنت تقود سيارتك بأنوار ساطعة تأتيك من خلفك وتسطع في المرآة فينعكس نورها إلى عينيك مما يفقدك القدرة على الرؤية الجيدة لثواني، ترفع نظرك إلى المرآة التي على الزجاج الأمامي فتشاهد سيارة قادمة بسرعة هائلة فتتخطاك من بعد الخط الأصفر قبل أن تستطيع أن تغيرك مسارك لتفسح لها الطريق، قد يقابلك هذا الموقف مرات عديدة ليلًا أو نهارًا، أو غيرها من المواقف أثناء قيادة السيارة أو في حياتك العامة فكيف تتصرف.

في إحدى المرات وأنا أقود سيارتي مرت بجانبي سيارة بها مجموعة من الشباب، فقذف أحدهم بكأس عصير ورقية مملؤة بعصير لونه أحمر، وقعت الكأس على الزجاج الأمامي وأتخذت طريقها حتى سقطت من فوق الزجاج الخلفي ثم إلى الطريق تاركةً خلفها ما حجب الرؤية والتي عالجتها سريعًا بتشغيل ماء المساحات.

بالطبع إرتفعت درجة الغضب عندي إلى أقصاها فمر أمامي شريط كامل من الأحداث التي قد تجري إن أنا تابعتهم، ربما يقع حادث أو وربما يقفون فتحصل مشادة كلامية تتطور إلى إستخدام الأيادي ولا يعلم أحد كيف ستنتهي، هدأت قليلًا بعد أن ذكرت الله وحوقلت وأسترجعت وتعوذت من الشيطان ثم توقفت لأمسح أثر العصير من على الزجاج الأمامي وأمضي وكأن شيئًا لم يحدث سوى تجربة إيجابية أستفدت منها في أحداث لاحقة والحمد لله.

في كتابه العادات السبع يقول ستيفن كوفي في العادة الثانية (إبدأ والنهاية في ذهنك)، والذي سأنقل عنه بتصرف حر ما قاله عن المثير والإستجابة.

في مثل هذه المواقف يحدث ما يطلق عليه مثير أو فعل ويكون له إستجابة أو ردة فعل كما في قانون الفيزياء المعروف (لكل فعل رد فعل مساوي له في القوة معاكس له في الإتجاه) وإنما قبل أن تحصل ردة الفعل هناك وقت أو مساحة كافية لردة الفعل وفي هذه المساحة هناك ما يطلق عليه المسخرات الإنسانية أو ما نملكه نحن من خيارات قبل أن نقوم بردة الفعل، .وهذه المسخرات هي:
* الإدراك الواعي.
* التخيل.
* الضمير.
* الإرادة المستقلة.

إن لدينا الإدراك الواعي بما يدور في محيطنا من أحداث وهذا الإدراك إما أن يجعل ردود أفعالنا سلبية عنيفة أو يجعلها إيجايية رقيقة بناء على ما لدينا من خبرات وموارد دينية أو إجتماعية أو علمية تُملي علينا ما يجب أن نقوم به وإن كان سيؤثر على صحتنا النفسية والجسدية سلبًا أو إيجابًا، وهذا الإدراك الواعي هو ما يمكن أن نطلق عليه التغافل، وكما قيل إن نصف الحُلم في التغافل لنقي أنفسنا والآخرين السوء والعواقب الوخيمة.

ونحن أيضًا نملك التخيل والذي يمدنا بالرؤية الثاقبة في تخيل ما بعد الحدث وإستقراء المستقبل تخيلًا وتوقع ما قد يحصل سلبًا أو إيجابًا من جراء تصرفاتنا وأفعالنا كردود أفعال أو إستجابة لما نتعرض له من أحداث تؤثر على وتيرة مسيرة حياتنا سواءً تأثيرًا مؤقتًا أو دائمًا والتي قد تترك أثرًا إيجابيًا نستفيد منه في حياتنا أو أثرًا سلبيًا يطول تأثيره على حياتنا إن لم نحسن التعامل معه بحكمة وعقلانية.

في نفس الوقت نحن نملك الضمير والذي توجهه التقوى وحسن الخلق أو توجهه الجهالة وسوء الخلق فالضمير هو المحاسب الصامت الذي يوجه تصرفاتنا في إتجاهين لا ثالث لهما إما الإتجاه الإيجابي ويحكمه قوله تعالى ( وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) وقوله صلى الله عليه وسلم (أحب لأخيك ما تحب لنفسك) أو الإتجاه السلبي الذي يوجهه الشيطان نحو الإنتقام والأخذ بالثأر أو إحداث الضرر بالآخرين دون مراعاة للدين أو الأعراف والتي لا يمكن التنبوء بعواقبها أو ما تؤول إليه الأحداث، وهذا الضمير ذو الإتجاه السلبي قد يستفيق يومًا ما في المستقبل وحيئذ يكون الألم أشد وأقوى حيث لا ينفع الندم.

وأخيرًا نحن لدينا الإرادة المستقلة، فلن يستطيع أحدٌ أن يجبرنا على إتخاذ ردود أفعال أو إستجابة لأي حدث ما لم نكن نحن لدينا الرغبة للقيام به، فإرادتنا المستقلة هي تحكُم ذاتي آلي في دواخلنا لن يستطيع أي شخص الوصول إليه وتوجيهه في أي إتجاه إن لم نحن نُعطه الصلاحية والسماح له بذلك.

ولهذا عندما نمر بموقف صعب أو تصرف أرعن من شخص ما فردود أفعالنا أو إستجابتنا لما يثيرنا ليس لأحد أيًا كان السيطرة علينا أو توجيهنا كما يريد، وإنما تحكمنا عوامل داخلية، نحن لدينا القدرة الكافية للتعامل معها برجوعنا إلى مرجعياتنا الدينية أو الإجتماعية بناء على خبراتنا المتراكمة على خط سير حياتنا الماضية وما نريد أن نكون عليه مستقبلًا.

لذا، علينا التمرن على التحكم في تصرفاتنا عملًا بقوله صلى الله عليه وسلم (إِنَّما العلمُ بِالتَّعَلُّمِ ، و إِنَّما الحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ ، و مَنْ يَتَحَرَّ الخَيْرَ يُعْطَهُ ، و مَنْ يَتَّقِ الشَّرَّ يُوقَهُ).

عبدالعزيز بن مبروك الصحفي

 

مقالات سابقة للكاتب

17 تعليق على “المثير والإستجابة

صالح ابراهيم خضير الزهراني

بارك الله فيك يا دكتور كلام سليم ومفيد جدا

غير معروف

بارك الله في علمك و تقديمه للناس أبا سهل.

محمد عرب

يوجزها صلى الله عليه وسلم في قوله( ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب).

ياسر الصحفي

تفكير وتصور ممتاز لحسن التعامل مع أفعال من حولنا و ظروفنا

أبو سامي

شكراً دكتور عبدالعزيز على مقالك المميز كعادتك.
‎فمجاهدة نفسك وقهرها حينما يشتد بك الغضب؛
‎ هذا يدل على قوة تمكينك من نفسك وتغلبك على الشيطان. ‏
‏فعندما يستفزك شخص ما ، وتنجح في عدم تفاعلك مع استفزازه ، وتتحكم في غضبك .. فإن عقلك يستفيد من ذلك باعتباره تدريب ، فيسهل عليك التعامل مع الاستفزاز في المرة القادمة.. وهكذا يستمر عقلك في التدرب حتى تكتسب صفة الحلم.
‏(وإنما الحلم بالتحلم).
ففي كل مرة تقاوم الإنفعال والتصرف أثناء غضبك فأنت تقوم بإعادة برمجة دماغك ليصبح أكثر ذكاء وهدوء في المستقبل، بمعنى إذا نجحت في مقاومة غضبك باستمرار من الممكن أن تتغير شخصيتك كليا لتصبح أكثر إتزاناً وحكمة.
فالنفس تُهذّب حتى تصل لنسختها الأفضل
‏ولا تولد بها
( ليس الشديد بالصرعة ولكن الشديد هو الذي يملك نفسه عند الغضب )

عبدالعزيزالصحفي

طرح قيم جدًا مكتمل الحلقات الإيجابية بالأدلة الدينية الساميه
اثرتني فـ استجبت
أنت رآآآئع
تحياتي لك

ابو عبدالله

بارك الله في علمك ونفع بك

عبدالعزيز بن مبروك الصحفي

الأستاذ صالح إبراهيم خضير الزهراني
أشكر لك مرورك، بارك الله فيك وأسعدك وجزاك الله خيرًا.

عبدالعزيز بن مبروك الصحفي

الأخ من رمز لإسمه غير معروف
بارك الله فيك وأسعدك على دعواتك ولك بالمثل وجزاك الله خيرًا.

عبدالعزيز بن مبروك الصحفي

الأخ الأستاذ محمد عرب
صدقت بارك الله فيك، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا الإقتداء به صلى الله عليه وسلم.

عبدالعزيز بن مبروك الصحفي

الإبن الدكتور ياسر الصحفي
بارك الله فيك ورزقك حسن النظر والتدبر ونفع بك وجزاك الله خيرًا.

عبدالعزيز بن مبروك الصحفي

الأخ الأستاذ أبو سامي
شكرًا على مرورك وعلى إضافتك الرائعة التي أعطت الموضوع بُعدًا أعمق. جزاك الله خيرًا وأسعدك ونفعك ونفع بك وبعلمك.

عبدالعزيز بن مبروك الصحفي

الأخ السمي الأستاذ عبدالعزيز الصحفي
وجزاك الله خيرًا على تفاعلك وثنائك وروعتك في مرورك.
وفقك الله ورعاك.

حلمي محمود الخياط

_ قرأت المقاله كامله ولو أني تأخرت في الرد
لظروف قاهره فعلا كل ماجاء في المقاله شيء
فيه من التعقل والنظر للأمور بعين العقل لابعين
الجسد والتغافل كما قال الامام الحسن البصري
وايده في ذلك الامام احمد بن حنبل والامام احمد الشافعي أنه من خلق الاسلام بالكامل
وتذكرت قولا لحكيم العرب في الجاهليه الأحنف
بن قيس التميمي من لم يصبر على كلمه سمع
كلمات، ورب غيظ قد تجرعته مخافة ماهو أشد منه.
الحقيقه يارفيق الدرب مقاله جميله تكتب بمداد
من الذهب وهذا ليس غريبا منك ماأقول غير اللهم زد وبارك
دمتم بخير داءما.

عبدالعزيز بن مبروك الصحفي

الأخ الحبيب الأستاذ حلمي محمود الخياط
لك العذر يا غالي، يكفيني مرورك العطر وإضافتك الرائعة، وفقك الله ورعاك وزادك علمًا ونورًا، وجزاك الله خيرًا.

المشرفة/جميلة الصحفي

الكاتب/الدكتور عبدالعزيز الصحفي

من المقالات البناءة التي تنمي العلاقات الانسانية و تدعم روح المحبة و الاخاء. عرض الكاتب هذا المقال باستراتيجية علمية تربوية منهجية معرفية رغم اختلاف عناصر الحياة و متغيراتها، ان الغضب يسبب فوران دم القلب بغية الانتقام و الثأر، قعن أَبي هريرة : أَنَّ رَجُلًا قَالَ للنَّبِيِّ ﷺ: أَوْصِني، قَالَ: لا تَغْضَبْ، فَرَدَّدَ مِرَارًا قَالَ: لا تَغْضَبْ رواه البخاري. و قد تحدث الكاتب بطريقة جديدة تواكب العصر الذي نعيش فيه و حث على الاتصاف بالحلم و الرحمة و الثبات في اتخاذ القرارات تطبيقاً لما جاء في الكتاب والسنة و اطفاء لثورة الشيطان بالحلم و ضبط النفس. تنقل فالمقال بين المثالية و الواقعية و اعمال العقل في آن واحد و تأجيل القرارات و الاحكام حال الغضب كما نرى في الحديث الكريم (لا يَحْكُمْ أحَدٌ بيْنَ اثْنَيْنِ وهو غَضْبانُ) و الاستجابة لذلك تحقق بناء مجتمعات ناهضة و أجيال متمكنة ناجحة في علاقاتها.

نشكر حبيبنا الغالي على قلوبنا لكل ماقدمه من مقالات هادفة بارك الله فيك و حفظك

عبدالعزيز بن مبروك الصحفي

الفاضلة المشرفة جميلة الصحفي
تشرفت بمرورك الرائع وبإضافتك الجميلة، فجزاك الله خيرًا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *