سلاسل المرتفعات!

🖋️من الحقائق الطبيعية أن الجبال لا توجد فرادى، لا يكاد ينشأ الجبل وحدَه في الصحراء المطمئنة، وإنما كثيرًا ما تتعاضد ظروف أرضية مختلفة تنشأ عنها سلسلة من المرتفعات كجبال السروات.

جرِّب أن تلقيَ بَصيصًا خافتًا من الضوء على أي مرحلة زمنية في غياهبِ التاريخ العلمي، فستجد أن قانون الجبال البشرية لا يختلف كثيرًا عن نظام الظواهر الطبيعية.

يولد أحمد بن حنبل وإلى جواره جبال الحفظ كابن المديني ومحمد بن إسماعيل، يوجد الشافعي وحيالَه نحارير الفقه محمد بن الحسن والليث بن سعد، يظهر ابن تيمية وفي زمَنِه أوعية العلم الـمِزِّي والذهبي وابن كثير وابن القيم.

تصاب القريحة الشعرية العربية بالجفاف لعدة قرون، ثم في مرحلةٍ ما يولد البارودي ويتبعه شوقي وحافظ وإسماعيل صبري وآخرون، فيقفزون بالأدب العربي عدة مراحل ويخرجونه من بوتقة (دام علا العماد) و(سِرْ فلا كبا بك الفرس)، إلى فضاءات أخرى أكثر رحابة، ولا تمت لما قبلها بصِلة وثيقة.

يقول الرافعي مصوِّرًا هذا التسلسل الزمني بين المدِّ والجزر، وحاكيًا قصة الفقر الحاد في المواهب، ثم تخلّق سلاسلَ من المرتفعات في مرحلةٍ زمنية معينة: (قد تصرَّمتْ القرون الكثيرة والشعراء يتناقلون ديوان المتنبي وغيره، ثم لا يجيئون إلا بشعر الصناعة والتكلف، ولا يخلد الجيل منهم إلا لما رأى في عصره، ولا يستفتح غير الباب الذي فُتِح له، إلى أن كان البارودي!).

في حقبة زمنية معينة يَفْترُ سوق الاهتمام بالسنة النبوية تصحيحًا وتضعيفًا، وتضمحل العناية بسؤالات ابن معين، وعلوم ابن أبي حاتم، وعلل الدارقطني، ومجاميع الخطيب، وتحقيقات ابن حجر، وكأنما طوي بساط ذلك الفنِّ إلى الأبد، حتى إنك لتجد أمثال الشيخ المعلمي يبثُّ الحسرات على اغتراب علوم الحديث وازوِارِ رِقاب الناس عنه بمرارةٍ ساخنة في مناسباتٍ مختلفةٍ، فيقول في أحد المواضع: (لكن المصيبة حقّ المصيبة إعراض الناس عن هذا العلم العظيم، ولم يبق إلا أفراد يُلمُّون بشيءٍ من ظواهره)، ويقول في سياق كلامه عن مكائد المستشرقين: (اغتنموا انصرافَ المسلمين عن علم الحديث، وجهلَ السواد الأعظم منهم بحقيقته فراحوا يشكّكون ويتهجّمون)، ويقول في أثناء كشفه لأحد المدلّسين لرجال الأسانيد في هذا العصر: (عرف أن هذا الفن أصبح بغاية الغُربة، فَغَلَبَ على ظَنِّه أنه إذا زعم أن الواقع في السند هو القيراطي (أحد الرواة) لا يردّ ذلك عليه أحد، فأما الله تبارك وتعالى فله معه حساب آخر)، ويُلاحَظ من النصوص السالفة أن الشيخ كان يكابد أحزانًا مكتومة من صدوف الناس عن علوم السنة النبوية وعزوفهم عن مباحثِها الجليلة.

ثم في لحظة زمنية مقاربة يبرز الألباني، ويشتهر أحمد شاكر، وتنتشر تحقيقات المعلِّمي، وآخرون مِنهم لما يلحقوا بهم، وتغدو بفضلِ جهودهم اصطلاحاتُ علم الحديث وبعضُ تفاصيلِهِ الجزئية مفهومةً لعامَّة الطلبة والدارسين.

وكذا سائر الاهتمامات العلمية التي تطفو على السطح حينًا، يقف خلفَها كوكبةٌ من الباعثين لها بعد الهمود، والمحرِّكين لها بعد الجمود، بل حتى مدارس السلوك والعبادة والنسك تظهر إلى السطح ظهورًا جماعيًّا، فأنَّى التفتَّ وفتشتَ في مجاهل التاريخ فستجد بأن العَمْلَقة مُعدِية، وأن صحبة الفحول تُفحِّل، وأنَّ الناس كأسراب القَطا مجبولون على تشبه بعضهم ببعض.

وقد جاء في الشعر المنسوب لأبي الفتح البستي هذانِ البيتان اللطيفان، وهما يحكيان قصة تأثر الموهبة بالعصر، وكون العطاء الإنساني مجرَّدَ صدىً مباشر لمؤثرات خارجية:

إذا أحسست في لفظي فتورًا
وحفظي والبلاغة والبيانِ

فلا ترتب بفهمي إن رقصي
على مقدارِ إيقاع الزمانِ!

وهذان البيتان يستدعيان من الذاكرة الكلمةَ العميقة المأثورة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهي قوله: الناس بزمانهم أشبه منهم بآبائهم!

ثمة أسباب تقف خلف هذه الظواهر التاريخية تتعلق بالظروف المشتركة، والإلهام المتبادل، والمنافسة الخفية، والرضوخ لأسئلة متشابهة، واتحاد النبع كالشيخ المشترك المؤثر، وهذه الأخيرة في غاية التأثير على حركة العلوم، فمن الملاحظ عبر التاريخ أن للأشياخ تأثيرًا يربو على مجرّد تعليم العلوم، وإنما من شأن الشيخ المؤثر أن يحدد مدى السقف الذي تتطاول له أعناق تلاميذه في كل علم، فيخفض الاهتمام بمجالٍ ما لدى تلاميذه ويرفع، وقد يكون ذلك الأثر بشعورٍ منه وبلا شعور، وما أعرض عنه الشيخ من المعارف فإنه غالبًا يترك أثرًا بالغًا على تلاميذه يعسر الانفكاك عنه، إلا أن تتداركهم الرحمة بتنويع الأخذ وتوسيع الأفق وكثرة الاستهداء.

ومن بواعث سلاسل المرتفعات أن توجد عند الإنسان قابليَّة معيِّنة، لكنها كامنة في نفسه كمون النار في الرماد، حتى إذا وجِدت بعض البواعث الخارجية انبعثت تلك الموهبة من مرقدها، فمن ذلك ما يحكى في بعض كتب التراجم أن الشاعرَ الشيظمي كان منقطعًا لسيف الدولة قبل ورودِ المتنبي عليه، وكان يقول شعرًا مختلَّ النسج مضطرب النظم، حتى إذا قامت للمتنبي سوق عند سيف الدولة دخله شبيهُ شيطان فقالَ شعرًا جيِّدًا!

وثمة أمور أخرى تقف خلف هذه الظواهر العلمية لا يعلمها إلا اللطيف الخبير الذي من أسمائه القابض والباسط، فربما اقتضت حكمته في مرحلةٍ زمنية بسطَ الدين ونشر العلم، فتنبعث من مرقدها الأسباب البشرية من الشخصيات الصادقة الملهمة، والظروف المتاخمة المساعدة، وربما اقتضت حكمته قبضَهما فتندرس الهمم، ويفتر الطلبة، ويصغر محيط الحلقات، ويكسد سوق التعلم.

وهكذا كلُّ من فتش صفحات التاريخ وَجدَ أن الناس تمرُّ بهم ظروف شتى، ينشأ عنها سلاسل من المرتفعات البشرية، ومن جملة التوفيقِ الإلهي أن يكون الإنسان جبلا مرتفعًا في الخير وبثّ العلوم النافعة، وإذا فاتَه ذلك عجزًا أو انشغالًا كان سببًا مباشرًا في صناعةِ هذه المرتفعات البشرية!

مقالات سابقة للكاتب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *