🖋️مزاج الإنسان كثير التشكّل عظيم التحول سريع التقلب، فليس هو صَلصَالا ليِّنًا مِطواعًا يشكِّله بطرف إِبهامه، بل كثيرًا ما يكون المزاج الإنساني قائدًا مستبدًّا وجِدارًا صُلبًا يحولُ بينه وبين بلوغ أمنياته، ولذلك فالمرء حينما يمنح مزاجه الشخصي مِقوَد رِحلته القصيرة في هذه الحياة الدنيا فإنه يذهب به في بيداء الآمال البعيدة، ويقلِّبه ذات اليمين وذات الشمال كيفما شاء ومتى شاء!
وإذا استرابَ الإنسان في هذه المقدِّمة فليبادر إلى إلقاء نظرةٍ عابرةٍ على ورقة قائمة المنجزات التي كتبها في أول هذا العام الهجري قبل قرابة الشهرين، وذلك حينما كانت روحه ترفرف في برزخ بين السماء والأرض من فَرْط الحماس، فإنه سيلحظ على الفور أن هذه الورقة الأنيقَة المشرِقة حينما وصلت إلى مكتب المدير العام الأستاذ المزاج أجرى عليها على مرِّ الأيامِ شطبًا وتأجيلا وتعديلا واسعًا، وأخلاها دون إشعار أو استئذان من كثيرٍ من الأهداف المدرجة فيها، وأبقى له شيئًا من الفُتات!
ولو أنصف الإنسانُ من نفسه لوجدَ أن تقلُّبات المزاج ساهمت مساهمةً فاعلة في ثَنْيِه عن بلوغ أهدافِه المرسومة، فربما هتفَ مع الشاعر الأول:
كيف احتراسي من عدوي ** إذا كان عدوي بين أضلاعي!
وليس المزاجُ هو العلَّة الوحيدة في صرف الإنسان عن بلوغ أهدافه، فلعدَمِ بلوغ الأهداف أسباب كثيرة، مِنْها أن العزائم الإنسانية كثيرًا ما تنفسخ، (وما أكثر انفساخ عزائم الناس) كما يقول ابن تيمية، ومنها أن عامة الناس لا يقدِرون على التخلص من المألوفات والعوائد بينما (الوصول إلى المطلوب موقوف على هجر العوائد وقطع العوائق) كما يقول ابن القيم، فأكثر الناس أدرجوا أنفسهم في سِلكِ عادات اجتماعية مكثفة لا تكاد تنقطع في الاجتماع والتواصل والتفرق واللقاء والأحاديث تفني زهرة أعمارهم وتحرق ثمرة أوقاتهم وهم لا يشعرون، وهذه معاناة بشرية من قديم الزمان، ولذلك يقول ابن الجوزي ملخِّصًا هذه الحال: (رأيت العادات قد غلبت الناس في تضييع الزمان!).
وهذه الأسباب السالِفَة وغيرها ليس هذا موضع نقاشِها وعرضِها، وإنما أردت أن أذكر جانبًا يتعلق بمخاتلة المزاج الإنساني وحُسنِ الاحتيال عليه، وذلك في سبيل المضيِّ صعودًا في سلالم الإنجاز، ودعني أذكر لك في البداية قصة ربما شعرتَ لأول وهلة بأنها ساذَجة وتافِهة، ولكنها في حقيقة الحال تدور في فلك المخاتلة والمخادعة المحمودة للمزاج الإنساني!
إطلاق الصاروخ الفضائي:
كانت الكاتبة ميل روبنز صاحبة كتاب (قاعدة الخمس ثوانٍ) تمرُّ بظروف صعبة للغاية، ولديها أعمال يومية متراكمة، وهي تستعمل حيالها التسويف والتأجيل ولزوم الفِراش، ثم إنها شاهدت عبر التلفاز عملية إطلاق صاروخ فضائي، وقبل انطلاق الصاروخ بدأ العد التنازلي من الرقم خمسة للرقم واحد، حينها طرأت فكرة القاعدة في رأسها، فعزمت على القيام بعملية إطلاق النفس مثل الصاروخ تمامًا، وفي صباح اليوم التالي عندما رن المنبِّه قامت بالعد التنازلي من الرقم خمسة إلى الرقم واحد، وبالفعل نهضت من السرير من أول مرة، وذكرت الكاتبة أنها كانت تحاول القيام بتغيير حياتها، لكنها لم تكن تعلم كيف تقوم بذلك حتى وجدت طريقتها الخاصة في الإنجاز، وهي الانتظام عبر قاعدة الخمس ثواني.
ربما تأخذك الدهشة حينما تعلم أن هذا الكتاب هو من أكثر الكتب مبيعًا، وإذا كتبت عنوانه في محركات البحث فستجد مادةً وافرةً عنه في عدَّةِ لغات، وفكرته الجوهرية فيها شيء من السذاجة، وتستطيع تلخيص الفكرة في سطر واحد، ولكن في الحقيقة ثمة جانب عمليّ واسع في حياة الناس تحت ظلال هذه الفكرة التي تبدو بهذه السطحية!
الفكرة باختصار أن البداية ليست خطوةً ضمن خطوات الإنجاز كما نتوهَّم، البداية دائمًا وأبدًا شطرُ الإنجاز، إذا بدأتَ في أي عملٍ دخلتَ في منحدرٍ يسوقك سوقًا لآخر الطريق، ثمة كتلة من الجليد تحيط بعملك وإنجازك قبل الولوج فيه، وهي سريعة الذوبان والاضمحلال إذا بدأت، وهذا الكتلة الجليدية تتشكل باستمرار في مَطلع كل يوم، وتتبدد كلما بدأت واستأنفتَ!
والسرُّ وراء فاعلية هذه القاعدة أن الإنسان لا يتحكم في مزاجه ومشاعره، ولكنه يتحكم في أفعالِه وحركاته، وإذا كان المزاج الإنساني الذي لا نتحكم فيه يتشكل سريعًا وفقًا للأفعال التي نتحكم فيها، فلماذا يستشار المزاج في الإنجاز قبل البدء؟ ولماذا يُـمنح صلاحيات المدير العام؟ بينما هو قابل للانقياد والانصياع وإعادة التشكل بمجرد تجاوز طلائع البدايات!
يقول الأديب الشهير إبراهيم المازني في شرح هذه الفكرة قبل أن تولد هذه الكاتبة الغربية: (ظللت أقول لنفسي كلما هممتُ بعمل أو قول أو كتابة أو مباشرة أي شيء: إن الخطوة الأولى هي العسيرة، والتي يكثر قبلها التردد، حتى إذا خطاها الإنسان صار ما بعدها سهلا، نسبيًّا على الأقل).
جرِّب أن تستثقل قراءة حزبك اليومي من القرآن، ثم تقول لنفسك: سأقرأ وجهين في دقيقتين، فإنك لا تلبث أن تجد في نفسك خِفَّة للاستمرار لم تكن حاضرةً قبل البدء، وامضِ على ذلك في سائر أهدافك الدَّوريَّة، فلا تَـحْسُن المخاتلة والمخادعة إلا في هذا الموضع! وكما كان يقول الشاعر الجاهليّ:
وَاكْذِبِ النفسَ إذا حدثتَها ** إنَّ صدقَ النفس يزري بالأمل!
وذكر العلامة الشوكانيّ أنه انتفع انتفاعًا عظيمًا بقاعدة شيخِه الذي كتب من نفائس الكتب شيئًا كثيرًا رغم انشغالِه بالتدريس، فسأله عن السِّر، فقال: إني لا أترك النسخ يومًا واحدًا، وإذا عرض ما يمنع نسخت ولو سطرًا أو سطرين! قال الشوكاني: فلزمت قاعدته هذه، فرأيت في ذلك منفعةً عظيمة! ولا شكّ أن السطر والسطرين ليس فيهما منفعة عظيمة بحدّ ذاتهما، وإنما يحصل بهما الغرض الأعلى من تبديد هالة البدايات واستكمال المقدور عليه من العمل!
فالسطران مفتاح الصفحات، والثواني مفتاح الساعات، والخطوة والخطوتان مفتاح مسافات المشي الطويلة، فهذه القاعدة فعَّالة وعظيمة الأثر، وهي تنطوي على مخاتلة عميقة للمزاج المتقلب، وتحرّر نوعي من نفاذ سلطته الواسعة، فإن للبدايات هالةً عظيمة متجددة يتوهمها المزاج الإنساني! فإذا حان موعد العمل والإنجاز فادخلوا على البدايات الأبواب فإنكم -بإذن الله- غالبون!
بقلم: د. سليمان بن ناصر العبودي
مقالات سابقة للكاتب