ابن حميد (2-2)

🖋️ كان في مستهلِّ هذا القرن الهجري نفرٌ من الشيوخ في شتى البلدان، أقامهم الله تعالى حجة على أهل هذه القرون المتأخِّرة، وجعلهم دلائلَ متحركةً شاهدةً بأن أنهار النفعِ باقية متدفقة، وأن الأوقات تتسع لجلائل الأعمال، وأن إيثارَ الآخرة ممكن، وأن وَصْلَ ما مضى من سير النبلاءِ وارِد، وأن كثيرًا من الوقائع التي ترويها كتب التراجم والطبقات إن لم تكن صحيحة فليست بعيدة، وإن لم تكن واقعة فليست ممتنعة، وأنه لم تزل في جَعْبة التاريخ لحكايا الأكابر بقيَّة!

حينما أزمعت الوقوفَ مع شيءٍ من تراجمِ الأعلام، لم يكن مقصودي استقصاء ما في بطون الكتب، أو الإتيان على فوائتِ الأخبار من مشافَهة الرواة، أو الإغراب بالحكايا النادرة للمسامرات، وإنما قصدتُّ استنطاق الأحداث المعلومة، واستكناهَ الوقائع المتداولَة، ثم البحث في كوامنها، واستخراج مخبآتِها، ونحو ذلك مما يزيد في الإيمان ويذكي فتيل المطامح، كما قال ابن الجوزي: (رأيت الاشتغال بالفقه وسماع الحديث لا يكاد يكفي في صلاح القلب؛ إلا أن يمزَج بالرقائق والنظر في سير السلف الصالحين)، وإلا فقد وضِع في تراجم هؤلاء الجبالِ الذين نعرض لهم في هذه المقالات مصنفاتٌ عِدَّة، وسُوِّدت أوراق كثيرة تُطلب في مظانِّها لمن رامَ الوقوف على الخبايا في الزوايا.

•العالم النافع:
وغاية نفع العالم أن يكون واسع الأفق مضطَلِعًا بحاجات الناس الدينية والدنيوية، يسعى في صلاح حالهم ومآلهم، لا يحصر حركته في أُطُرٍ تقليدية ضيقة، وإنما يمتد نفعه حيثما قامت بالناس حاجة، فهذا الجانب أكثر ما يميّز الشخصيات العظيمة من سادة الأمة عبر العصور، وهو ما حفر لهم في قلوب الناس أخاديدَ من المودة، ثم بنى لهم فوقها شواهق من الولاء، فكما قيل في ترجمة ابن تيمية: (له محبون من العلماء والصلحاء، ومن الجند والأمراء، ومن التجار والكبراء، وسائر العامة تحبه، لأَنَّه منتصب لنفعهم ليلاً ونهارًا بلسانه وقلمه)، وهذه الحال من السعي في مصالح الناس الدينية والدنيوية على حدٍّ سواء هي تمام وراثة النبوة، فأنفع الخلق للخلق هم الأنبياء عليهم السلام.

وهكذا كان دأب الشيخ ابن حميد -رحمه الله- فقد وصل حياتَه بحياة الناس من حَولِه، وعلَّق على جدران قلبه مشاجِب لهمومِهم، وصَيَّر نفسه جسرًا لآمالهم، ولم يحدَّ نشاطَه في إطار التعليم وميدان القضاء وبَاحَة الفتوى، وإن كان في هذه الثلاثة قد أوفى على الغاية، وإنما كان الشيخ فوق ذلك (متصلا بالحياة والأحياء والمجتمع، ومن أهم أغراضه في ذلك الاستماع لحوائج الناس والسعي في قضائها، ورفع المظالم عنهم، وإيصال الحقوق إلى أهلها، ومن أجلِ هذا كان بيته مفتوحًا ومقصدًا للقاصي والداني والصغير والكبير).

•المشاريع الباقية:
لم يكتفِ الشيخ ابن حميد في سبيل نفع الناس بتقديم الحلول المؤقتة، ورفع المشاكل القائمة، وإطفاء الحرائق العارضة، وقضاء الحوائج الحادِثَة، وإنما كانت له في سبيل السعي لمصالحهم مبادراتٌ عامة مستمرَّة، وبعض مبادرات الشيخ ما زال قائمًا إلى هذا اليوم، مما يكشف أن الشيخِ كان يحمل في رأسه عقلا تحديثيًّا سابِقًا لأوانه.

فمن ذلك أنه كتب إلى الملك عبدالعزيز -رحمه الله- في عام 1363هـ، يشرح في هذا الكتاب حال طلبة العلم في مدينة بريدة، ويبيِّن فيه مدى حاجتهم لدخلٍ ثابت، وأنهم بحاجة ماسّة لعمارة أوقاتهم في طلب العلم وعدم الانشغال في طلب المعاش، فكانت نتيجة ذلك أن أمسى لطلبة العلمِ في ذلك الحين رواتب شهريَّة ثابتة!

وهذا السعي في كفاية طلبة العلم من أعظم القربات، وهو من أكبر الشواهد على إدراكِ أهمية العلوم وتحصيل أسباب بقائها في المجتمعات، وكما يقول حافظ إبراهيم:

كم طوى البؤس نفوسًا لو رَعَت 

منبتًا خصبًا لكانت جوهرا

ولهذه المبادرة من الكفاية لطلاب العلم نظائر مشهورة في التاريخ، من ذلك أن ابنَّ طاهر لـمَّا رأى كتاب (غريب الحديث) لأبي عبيد القاسم بن سلام رحمه الله رتَّب له عشرة آلاف درهمٍ كلَّ شهر، وقال: (إن عقلا يعين صاحبه على عملِ هذا الكتاب حقيقٌ ألا يحوج إلى المعاش)، وهذا الإمام سفيان بن عيينة لما بَلَغَه وفاة جعفر البرمكي استقبل القبلة ثم قال: اللهم إنَّ جعفرًا كان قد كفاني مؤنةَ الدنيا، فاكفِهِ مؤنةَ الآخرة.

والعجيب أني حين نظرت في تاريخ هذا الخطاب السالِف الذي بعثه الشيخ ابن حميد، ثم قمتُ بحساب عمرهِ، فوجدتُّه زهاء أربع وثلاثين سنة فحسب، فانظر كيف يوفَّق الإنسان لأن يكون سببًا في نفع الناس وهو في هذا المرحلة المبكِّرة من عمره

وإذا رأيت من الهلال نموّه 

أيقنت أن سيكون بدرًا كاملا

ولم يقتصر نفع الشيخ العامُّ على ذلك، وإنما كان له مبادرات أخرى في مراحل مختلفة، فمن ذلك إنشاء هيئة عقاريَّة في ذلك الزمن المبكر تهدف إلى تحديد الأملاك ومعرفة حدود العقارات عند الخصومات، وسماها هيئة النظر، ومن ذلك السعي في حفر بئرٍ ارتوازي في القصيم لتأمين توفر المياه للأهالي، وغير ذلك من المبادرات العامة.
وهكذا يلتحم العالم بهمومِ الناس، ويبذل ما يستطيع في نفعهم، ولذلك حينما أقام الشيخ في بريدة كانت له مع أهلها عمومًا ومع طلبة العلم خصوصًا قصة كبيرة مفعمة بالحبّ، ولـمَّا تسامع الناس بأن الشيخ استدعي ليشغل وظيفةً في الرياض، بادروا بإرسال وفدٍ كبير لمقابلة الملك عبدالعزيز رحمه الله، والتمسوا منه إبقاء شيخهم عندهم حتى لطف الله بهم ووافق الملك.

•تحقيق المسائل:
وعلى صعيد العلوم فقد أحدث الشيخ في بريدة حركة علميةً لافتةً، وكان قرةَ عينِ طلاب العلوم في تلك المدينة الصغيرة، وهو مولعٌ بتحقيق المسائل، وإزالةِ الإشكال، ورفعِ الإبهام، فمن شأنه في التعليم أنه (لا يترك المسألة تمرُّ وفي نفسه أو نفوس طلابه شيء منها غير واضح).

وللشيخ طريقة لطيفةٌ مفيدةٌ في ضبط المسائل المشكلة بعد بحثِها، وهي أن يجرِّدها من لباس العبارة، ثم يعبِّر عن معانيها بعبارَتِه وألفاظه، ثم يذكر لها صورًا جديدة، وذلك حتى تثبت في ذهنه وأذهان الطلبة، وهذه طريقة التلخيص الذهني للمعنى، وفرز المدخَلات العلمية الجديدة قبل استقرارِها.

•دهشة التلاميذ:
بينما يمتح طلاب العلم من نبع معارف الشيخ كان يجول في أذهانهم ويضطرم في أعماقهم هذا التساؤل المتكرر: كيف يجد الشيخ ابن حميد كل هذه الأوقات الواسعة للتعليم رغم قيامه بواجبات كثيرة؟

يقول الشيخ العبودي -رحمه الله- شارحًا قصة هذه الدهشة في نفوس طلاب العلم: (كثيرًا ما تذاكرنا نحن طلبة العلم بركة الوقت عند شيخنا الشيخ عبدالله بن حميد، وكيف يستطيع أن يتسع وقته لكلِّ الأعباء التي يفرضها عليه وضعه قاضيًا ومرجعًا في كثير من شؤون المدينة، وقد فرض على نفسه برنامجًا مكثَّفًا للتعليم قلَّ أن يتحمله شيخ آخر..)، وإذا أردنا أن نحلِّلَ هذه الظاهرة العجيبة في الإنجاز لدى الشيخ من خلال النظر في ترجمته، فإننا نجد أن وراءَها عدة أسباب، منها ما عُرِفَ به الشيخ من طبيعة الحزم في كلِّ أموره التي يعزم عليها، ومِنها قوة التحصيل العلمي ورسوخه في زمن الطلب، وهذا بلا ريب يختصر على العالِم زمانًا طويلا في زمن العطاء، وذلك لأنه يقلِّص حاجته للتحضير المستمرّ لمادّته العلمية، ومنها الذكاء الفطري الحادّ الذي يجعل الشيخ يدرك سريعًا.

وبهذا الذكاء الفطري كان الشيخ يعرف الناس سواءً الخصوم في المحكمة أو غيرهم، وكانت للشيخ طريقة في معرفة مقادير عقولِهم، وهي أن يسألهم عن أشياءَ يعرفها، فإذا أجابوا عرف مدى دقتهم فيما لا يعرف، وهي طريقة حسنة لطيفة.

والحقيقة أن الشيخ على رسوخه التام في علوم الشريعة وما يتصل بها من العربية كان واسعَ النظر في أبوابٍ ربما تخفى تفاصيلها على بعض طلبةِ العلم، فمن ذلك المعرفة الواسعة بالتاريخ وأحوال الناس، والاهتمام البالغ في معرفة أحوال الأمم والشعوب، وكان يُفْضِي إلى بعضِ جلَّاسِهِ بأنَّ في صدرِه تاريخًا يودُّ لو أملاه! فهذا التفنُّن المحمود لا يحصل إلا بتظاهر الشغف وتكامل الموهبة وصِدقِ الطلب، وهكذا كان ابن حميد!

بقلم: د. سليمان بن ناصر العبودي

مقالات سابقة للكاتب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *