فجأة وبدون أية مقدمات في مساء الجمعة الماضي أنطفأت الأنوار في شقتي التي أسكن فيها في الدرعية.
عم الظلام أرجاء المكان ومكثت فترة لا أعرف ماذا أصنع وسط ذلك الظلام المهيب؟.
استلقيت على السرير ولمع في ذهني مشهد القبر المظلم الذي حتماً سيدخله كل واحد منا ؛ وأنا أحد هؤلاء عندما ينتهي أجلي في يوم من الأيام.
في أثناء خيالاتي عن وحشة القبر ومآل العبد فيه وماذا سيكون المصير ، تذكرت ذلك اللقاء مع أمي في أحد الأيام ، حيث أمسكت أمي بكفيّ ونظرت إلي بكل حب وعاطفة الأم وقالت لي :( جعل هذه اليدين تدفني يا نوار يا حبيبي) ، قلت لها وأنا في ذهول من هذا الحب العظيم :( بعيد الشر عنك يا أمي).
علاقتي بأمي وطيدة جداً ، لا أدعي أني أكثر أخوتي براً بها ، ولكني أحاول ما استطعت أن أكون باراً بها ، لا يمر علي يوم دونما أتصل بها وأسعد بسماع صوتها وأتجاذب أطراف الحديث معها.
فأمي لديها قصص كثيرة من الماضي وتحفظ الكثير من الشعر النبطي. أحاول في اتصالي بها أن استحث قريحتها الشعرية حتى يطول الحديث معها فتستجيب لي بكل حب وحنان ، وتلقي على مسامعي بعضاً من الشعر والقصص الجميلة التي تزينها عندما تتغنى بها بصوتها المبحوح الآسر.
لا أستطيع أن أخفي شعوري وخوفي أن أتصل بها يوماً من الأيام ولا أجدها في حياتي.
كل يوم عندما أتصل بها واسمع كلمة ( ألو) من فيها يذهب خوفي وقلقي ، ويتبدد حزني وأرقي ، وتغمرني السعادة والفرح ، وتنسكب علي الطمأنينة والأمان ، وأحس أني لا زلت طفلا تؤنسه الأشياء البسيطة ، وتكبر داخله الآمال العريضة ، فتراني بعد كل اتصال بغاليتي ؛ أقبل على الحياة بكل حب ونشاط ، وينزاح عني كل هم وإحباط ؛ فكأنما سماع صوتها جرعة دواء ، ورقيةُ راحةٍ وأمانٍ واستشفاء ، وأكسير سعادة ومسرة وهناء ؛ فياربي لا عدمت تلك الرحمة والرأفة والعطف والحنان ، ولا حرمت من تلك الدعوات والنصائح والإحسان.
الكل يرى أنه يحظى بأم عظيمه وأنا أحد هؤلاء ؛ فلقد بذلت أمي جهوداً عظيمة عند نشأتنا حينما كنا صغاراً ، أفنت شبابها وزهرة عمرها في الإحسان إلينا ، وبذلت الغالي والنفيس وكل ما تملكه علينا ، وقدمت تضحيات كبيرة لايقوم بها سوى الأم فقط ، مازالت أمي على الرغم من كبرها ومرضها تحتوينا جميعاً بمشاعرها الدافئة وكلماتها الحانية تحاول أن تسعدنا جميعاً ونحن نحاول أن نبادلها نفس المشاعر ولكن هيهات هيهات أن نكافئ تضحيات ومشاعر الأم وحبها العظيم الغير مشروط.
الأم تضحي دونما تنتظر المقابل وتسهر على راحتنا منذ كنا أطفالاً ولا ترتاح ويطيب لها العيش عندما ترى أحدنا يعاني لأي سبب.
تعلمت من أمي خصال عظيمة من أهمها الإيمان والصدق والحب الغير مشروط والكرم وبذل التضحيات.
بالطبع يعتقد البعض أن شهادتي في أمي مجروحه لكوني أحد أبناءها ولكن من يعرف والدتي يلمس تلك الخصال التي تحدثت عنها.
فهي من تلك الطينة القديمة التي قل نظائرها في عصرنا الحاضر ؛ كريمة مع الجميع صغاراً وكباراً ، وتشعر بالآخرين وتتأثر لمعاناتهم حتى ولو كانوا غرباء ، لديها حس مرهف وقلب كبير مثّل لي مدرسة فريدة أنهل منها أعظم المعاني السامية.
عوداً لذي بدء من يتمنى أن يموت قبل من يحبه غير الأم ، بل غير أمي أنا.
في الختام حفظك الله لنا يا أمي وشافاك الله وعافاك وأمد الله عمرك على طاعته وأعاننا على برك والإحسان إليك.
إبنك المحب المخلص ( نوار ).
نوار بن دهري
[email protected]
مقالات سابقة للكاتب