الحب الوافد على القلب هو كالنار الصغيرة التي اشتعلت في الموقد، وحطبُها التواصل وتتبع الأخبار وتقليب الذكريات والركون للأفكار الخيالية والأماني البعيدة والأهواء الحالمة! فمن رام التعافي السريع منه فليقطع عنه هذا “المدد” من الحطب، وليسأل الله بإلحاح صادق واستغاثة خاشعة أن يهوّن عليه الألم “الوقتي” الذي سيشتعل في جوفه حالما تنطفئ هذه النار التي اشتعلت بلا قصد، وحينما تمسي هذا النار رمادًا فسينفخها بكلتا شفتيه وهو يتعجب ممَّا كان منه آنفا!
الحب لأيِّ شيء كان هو بمثابة كائن حي يكبر ويقوى ويتنفس ويهرم ويموت .. وذلك بحسب ما نقدمه لجسده من “غذاء” ولمعدته من “طعام” ولأعراضه من “دواء”، فلتقطع عنه إن رمتَ “الراحة” كلَّ “مدد”، فإنك إن فعلتَ ذلك رحل بهدوء واختفى عن ناظريك!
وبما أن “الحب” كائن حيّ، فلوفاة الحيِّ سكرات، وآلام مبرحة، تشبه انتزاع عضوٍ زائد، لا تزال الحياة تنبض في لحمه، والدماء تجري في شريانه، وهذه هي آلام المواجهة القوية والبتر السريع .. وهي وإن كانت قاسية أحيانًا -لا سيما في البدايات- لهي أهون على العاشق من بقاء الحب حَيًّا متوثبًا شامخًا مزمجرًا مسيطرا على الروح مالكا للتصرفات ..، ففي حياة هذا الحب موت العاشق، وفي موته حياته!
وكلما بادر بهذا العلاج كان أسهل عليه غالبًا، لذلك حتى الذين يذكرون أن العشق ليس اختياريًّا لا ينفون أن ثمة مرحلة اختيار وقبول وتحرر للإرادة يذكرها العاشق جيِّدًا لكنه كان في أثنائها يموِّلُ قلبه بما سيسلبه الإرادة وحرية التصرف، بعدها وجد نفسه في مرحلة توافد المتاعب الكبار، وشعر فيها أنه أمسى مسيَّرًا لا مخيَّرا!
قال العباس بن الأحنف مصوِّرًا هاتين المرحلتين:
الحب أول ما يكون لجاجة
تأتي به وتسوقه الأقدار
حتى إذا اقتحم الفتى لجج الهوى
جاءت أمور لا تطاق كبارُ!
ولو مكثتَ على هذه الحال بلا تواصل أمدًا طويلا، قاطعا حبال أمل الوصال، مراقبا مولاك الرحمن، مستحضرا أن ليس ثمة تخريج شرعي لهذه العلاقة، وكونَ نهايتها مجهولة المآل! وتسلحت بسلاح اليأس لسكنت كثيرا، واجتنبت كثيرا من بواعث الآلام في الدارَين!
نعم.. إن كان ثمة تخريج شرعي للعلاقة بأن تعبَّد الطريق للنكاح، وأُتيتْ البيوت من أبوابها، وصلح الطرفان لبعضيهما، واختارا اختيارا صحيحا غير خاضع لمجرد عاطفة مشبوبة منسوجة من خيالات حالمة توشك على الانطفاء، فهذا مقصود شرعا وعقلا، فما رئي للمتحابين مثل النكاح!
ولو تذكرت أنك تسير الآن في نفق مظلم مسدود، لأدركت أن من الخير أن تستدير للوراء من “الآن” قبل أن تقف على آخر النفق بعد رحلة طويلة مضنية.. شديدة الإنهاك، بالغة التعب، ممضَّةٍ للروح، مرهقةٍ للجسد، تطوِّقها الأحلام اللاواقعية، وتحيط بها عقبات الواقع الكأداء، ويحاول الشيطان الرجيم أن يرسم لها خاتمة خاصة من حبك حبائله، ومن نسج تزيينه وأمنياته!
نصحيتي للمبتلى أن يعود أدراجه، ويستعيذ بربه، ويفوض الأمر إليه في سجداته، ويلح عليه بالدعاء، فهو السلاح الأمضى في سلامة القلب من سائر الأدواء والأهواء.
من الأمور التي تداوي الروح الهائمة، وتلملم شعث الجراح الراعفة : محاولةُ إلحاق النفس ببعض البرامج الجادة كالقراءة، والبرامج الجماعية الهادفة، أو حضور الدروس وسماعها، أو قراءة تراجم الصالحين وتكرارها، وقراءة القرآن وتدبر معانيه وسماعه بصوت رخيم في هدآت الأسحار وساعات الأصيل، ففي هذا الكتاب شفاء من كل داء. قال أبو عبدالله ابن القيم عن سورة الأعراف –بعد أن ذكر جملة من معانيها وأغراضها-: (والمقصود أن هذه السورة من أولها إلى آخرها في ذكر حال أهل الهوى والشهوات، وما آل إليه أمرهم، فالعشق والهوى أصل كل بلية!).
وبالمناسبة فإني أوصي كل قارئ أن يقرأ عشرين صفحة لابن القيم، وهي الفصل الأخير من كتاب روضة المحبين وهي بعنوان (في ذم الهوى وما مخالفته من نيل المنى) ففي ذلك الموضع ساح قلم ابن القيم كعادته، وذكر معاني رفيعة وخلاصات نفيسة بأسلوب موجز بالغ التركيز.
المهم أن هذه النفس حين تملأ باهتمامات نافعة ومطامح عليَّة.. فإنها تتزاحم في القلب وتتملك مفاتيحه فيسلو عن سواها! ولهذا تجد في الكتب تعريف بعضهم للعشق بأنه (جهل عارض.. صادفَ حركة قلب فارغ!) وهذان المعنيان: (الجهل والفراغ) لا أعرف معنيين مطروقين في الكتب والأشعار التي تناولت أسباب العشق وبواعثه وأدواءه مثلهما! فهما عمودا خيام العاشقين، فالقلب الفارغ من الهموم هو أرض بكر مهيأة للاحتلال، والجهل والغفلة والإغضاء عن العيوب هو ضمان حياة هذا العشق بين الضلوع، فإذا سقط أحد العمودين اضمحل العشق وأوشك على الانهيار! لذلك يقول الرافعي: (ينظر الحب دائما بعين واحدة، فيرى جانبا ويعمى عن جانب، ولا ينظر بعينيه معا إلا حين يريد أن يتبين طريقه لينصرف!). ويقول أبو الطيب:
مما أضرَّ بأهل العشق أنهمُ
هَوَوا وما عرفوا الدنيا وما فطنوا
وأكثر القراء يعرفون البيت التالي لهذا البيت ويحفظونه، ويجعلون هذا البيت بمثابة مقدمة لما يليه، أما أنا فأرى أن مِن أعمق ما قاله أبو الطيب هو أن هؤلاء الكائنات: (هووا وما عرفوا الدنيا وما فطنوا!) فهو أقوام اغتروا بالظواهر، ووقفوا على الرسوم، واعتقلتهم اللحظات الفانية، ومن ثمَّ باركوا تسليم أرواحهم في هيئة خواتم في أنامل المارَّة والعابرين !
ثم إن العشق يتنافى مع أنفة الروح الكريمة وسموقها وشموخها واستقلالها وحريتها وإرادتها التامة، فالعاشق أبدًا مسلوب الإرادة على الإباء، مشلول القدرة على الاختيار، مدفوع دوما إلى أضيق الطرق، وهذا يتناقض جذريا مع معاني كرامة الروح وإبائها، وهذا أمر يجده كل عاشق –وإن كابر- في أول خطوات طريقه فكيف بأواخره، فعزة النفس والتهالك على أعتاب مخلوق طريقان متوازيان لا يلتقيان! والإنسان الشريف تعز عليه نفسه أن تتسول المشاعر إلحافا، وأن ترضى أن تكون مجرد احتمالٍ في حياة آخرين ..!
جاء في معلقة امرئ القيس :
أغرك مني أن حبَّكِ قاتلي
وأنك مهما تأمر القلب يفعل!
هذا الشطر (وأنك مهما تأمر القلب يفعل) يفهمه عامة قراء المعلقة بهذه الصورة بأنك: (مهما تأمري قلبي يفعل لأنه مطيع لك)، وهذا معنى صحيح محتمل، لكن لهذا البيت معنى آخر مليح للغاية، أورده الشراح كالأنباري والزوزني، لكن هذا المعنى الآخر غير متداول فيما رأيت، وهو معنى يروقني جدا لما فيه من شرف القلب وعزة النفس وإباء الروح والقدرة التامة على التكيف مع الواقع والأحوال! والمعنى هو: (أنك مهما تأمري قلبَكِ يفعل! لأنك مالكة له! وأنا لا أملك قلبي..).
فهي تملك أن تحب وتملك أن تصد! تملك أن تقبل بقلبها وتملك أن تصد بروحها! فما أجمل أن تقف حارسا ببوابة قلبك ، تُدخل في جوفه من شئت، وتخرج من حَرَمِهِ من شئت، وإذا استعصى عليك طرد أحدهم من أعماق القلب انتضيت سيف العزيمة، وقطعت عنه الواردات والإمدادات والخيالات وعرضته لتيارٍ آخر يعاكس مساره، فإذا بالساكن المستعصي بعد زمن يسير مجرد خرقةٍ بالية، ومحض جُثَّةٍ تدفنها وتواريها في أدنى مقبرة!
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون).
د. سليمان بن ناصر العبودي
مقالات سابقة للكاتب