لي تجربةٌ يسيرةٌ في تدريسِ بعضِ العلومِ الشَّرعية، وخرجت ببعضِ الخُلاصات التي أزعمُ أنها تزيد من فائدةِ التعليم، وأحبُّ أن أكتبَ بعضها في نُقاطٍ مرتَّبةٍ، فربَّ معلِّمٍ يقرؤها وينتفع بها مع طلبته، وربَّما كنتُ مقصِّرًا في امتثالِها أو امتثالِ بعضِها:
- حضِّر مادَّتَك العلمية: مهما كانت المسائل واضحةً وبيِّنة وفي غايةِ الظهور، للتحضير الجيِّد فوائد جمّة؛ فأولًا التحضير يزيدك فهمًا وعمقًا في أغوارِ مادَّتِك العلمية، فالفهم ليس درجةً واحدةً وإنما هو يتراكم ويتجذَّرُ شيئًا فشيئًا بطولِ النظر، وثانيًا التحضير يعينك على حسن الترتيب وجمالِ العرض، وثالثًا التحضير يدفع كثيرًا من الأوهام العلمية المترسِّبة دون وعي في قاعِ الذهن، فالقراءة المتجددة في المادَّة العلمية تشبه الدِّينمو الذي يولِّد الطاقة اللازمة للتشغيل، والمجلس النافع هو الذي لا ينقسم الحضور فيه إلى مُلقي ومستفيدين، وإنما يستفيد منه الملقي والمستمع معًا.
- اشرح من البداية: كل فكرةٍ أو مفهوم تريد شرحَه فلا تفترض أن الذي أمامَك يعرف مقدِّماته فتنتقل فورًا للنتائج، وإنما مهما كان مستوى مَن أمامَك؛ فاشرح المفهوم من بدايَتِه، وانتقل شيئًا فشيئًا من المفهوم المستقرّ إلى المفهوم الذي يراد شرحُه، وكثير من المفاهيم التي تفترضها مستقرةً هي في أحسن أحوالها كأنها جمرة فوقها رماد، وإذا تيقَّنتَ أن الطرف المقابِل يعرف المقدِّمات والمفاهيم الأولية، فهذا لا يعفيك من ذكرها -ولو بشكلٍ مختصر- ثم تبني فوقها ما أردتّ، فالانتقالات المفاجئة تربِك الذهن. وهذه الطريقة ترتِّب الأذهان، وتدفع الأوهام، وتجعل الحاضرين في تحليقٍ واحد وبمستوى متقاربٍ، فعلى سبيل المثال: إذا أردتَّ شرح مفهومٍ مبنيٍّ على مفهومٍ في بابٍ آخر سبق ذِكره، فمرَّ على الأول سريعًا، ثم اشرح الآخَر المتفرِّع عنه.
- بيِّن منهجك العلمي في أوَّل الشرح: المنهج العلمي هو الشرط اللازم بين المعلِّم والحاضرين، وهو الذي يرسم خارطة الدرس، وبه تُعلم نهايته الزمنية تقريبًا، وتُدرك مدى المحصِّلة المعرفيَّة النهائية منه، وبه يُحفظ المجلس من طفرات النمو المفاجئة، ويُصان من ظاهرتي المدّ والجزر المزاجي.
- أكثر من ضرب الأمثلة: أحسن المدرسين أثرًا أقدرُهم على ضرب الأمثلة المناسبة، وهي أحسن ما يعين على الفهم ابتداءً، وربَّما غاب المفهوم عن ذهن الطالب مع مرور الزمن ثم استدعاه ذهنه باستذكار المثال، يقول أبو حامد: (أحسن علاج الأفهام الضعيفة؛ الاستدراج والاستجرار إلى الحق بعكازة الأمثلة)، والأمثلة أنفع ما يكون في التعلُّمِ للأفهام الضعيفة والقوية معًا.
- لا تجب عن هذه الأسئلة: يحسن بالمعلِّم أن يستمع إلى الأسئلة ويجيب عن الإشكالات، لكن هناك أنواع من الأسئلة لا يحسن به سماعُها ولا الإجابة عنها، وهي أسئلة الخواطر العابرة، وقد كان الشيخ عبدالله بن غديان رحمه الله يسميها: (سؤال الخاطر)، والمراد بها وريثة اليقظة المفاجئة من السَّرَحان، أو تلك الناشئة عن الانتباه المفاجئ من الهواجس، أو كانت بسبب كون المفهوم جديدًا لم يستقر بعد، ولم يتميَّز عن أشباهه تميزًا تامًا، فالأفضل هو تأجيل الأسئلة لآخر المجلس لهذه الأسباب وغيرها، والقاعدة عندي: كلُّ إشكالٍ لم يبقَ مدةً طويلةً فليسَ بإشكالٍ.
- اقتدِ بأضعفهم: أكثر المعلِّمين إنما يحرص على الطلبة النابهين في حلقته، فَرَحًا بهم وتأميلا فيهم أن سيكون لهم شأنٌ في العلم، فيوليهم اهتمامًا مضاعفًا أكثرَ من غيرهم، وهذه نظر حسنٌ لا بأسَ به، وبعض المعلِّمين ينظر لزاوية أخرى، فيحرص على الطالبِ ذي الملكات الضعيفة ويمنحه اهتمامًا خاصًّا، فقد جاء في ترجمة الإسنوي صاحب كتاب المهمَّات بأنه كان: (يحرص على إيصال الفائدة للبليد، وكان ربَّما ذكر عنده المبتدئ الفائدة المطروقة؛ فيصغي إليه كأن لم يسمعها جبرًا لخاطره).
والحقيقة أن مراعاة المستويات المتفاوتة تفاوتًا كبيرًا في المجلس الواحد من العسر بمكانٍ، ولذلك إذا رأيت من لا يستفيد منك لكون فهمه فاضلا أو قاصرًا فوجِّهْه لغيرك.
ثمة أمور أخرى؛ إن أتيحت فرصة نشرتها بإذن الله.
سليمان بن ناصر العبودي
مقالات سابقة للكاتب