القدوة.. مشروع حياة

في زحمة الحياة اليومية التي لا تهدأ، يقف الإنسان أحيانًا عند مفترق طرق، يبحث عن المعنى، عن الهدف، عن النمو. في لحظة صفاء، وأثناء حوار عابر مع صديقي الدكتور أيمن، سألني:
“ما مشاريعك المستقبلية؟”
فأجبته دون سابق تخطيط:
“أن أؤلف كتابًا أكتب فيه تجربتي في الحياة.”
قال: “ثم ماذا؟”
قلت: “أن أكون قدوة!”

تعجّبت من نفسي، لم تكن هذه الإجابة في ذهني، لكنها خرجت من أعماقي، كأنها نداء فطرة طالما تردّد في داخلي دون أن أنطقه.

نعم، نحن في حاجة ماسة لوجود نموذج يُحتذى به في حياتنا؛ نموذج صادق، نزيه، أصيل، نستمدّ منه القيم، ونقيس عليه سلوكنا. قدوة في البيت، كأب يُربّي قبل أن يأمر، وكأمّ تقود بحنان. قدوة في المدرسة، كمعلم يُوجّه قبل أن يشرح. قدوة في المجتمع، كإنسان صادق مع نفسه، أمين في قوله وفعله.

القدوة ليست منصبًا ولا شهرة، ولا كلمات رنانة. إنها سلوك ثابت، وضمير حي، ومواقف مشرفة. إنها مشروع يبدأ من داخل النفس، من مراقبتها، من تهذيبها، ومن الإحساس بالمسؤولية تجاه من نحب.

ولكن… في زمنٍ طغى فيه الضجيج، وتصدّرت فيه القدوات الزائفة الشاشات ومواقع التواصل، أصبحنا بحاجة ماسّة لمن يعيد التوازن في حياة الجيل. جيل تائه بين مؤثرين بلا رسالة، ومشهورين بلا مضمون، يبحث عن قنديل نور في ظلامٍ يزداد.

وسائل الإعلام الحديثة، رغم ما فيها من خير، تُصدّر نماذج مشوّهة للنجاح والثراء، بعيدة كل البعد عن القيم. فإذا تخلى الآباء عن دورهم، والمعلمون عن رسالتهم، فمن سيملأ هذا الفراغ؟ من سيقود الأجيال نحو النور؟

لذلك، لكي أكون قدوة، يجب أولًا أن أبدأ بنفسي.
أن أعيش القيم التي أؤمن بها، وأُجسّدها في أفعالي اليومية. أن تتوافق أقوالي مع أفعالي، وأظل صادقًا في مواقفي، نزيهًا في سلوكي، متواضعًا في تعاملي.

أن تكون قدوة لا يعني أن تكون مثاليًا، بل أن تكون صادقًا حين تخطئ، شجاعًا حين تعترف، وثابتًا حين يتزلزل غيرك.
يتطلب الأمر صبرًا على التحديات، وشفافية في التعامل، وتحقيقًا للتوازن بين حياتك الشخصية والمهنية.
ولأن الحياة لا تتوقف عند محطة، فمن سمات النموذج الحقيقي أيضًا: التعلّم المستمر، والتطوّر الدائم، وعدم الاكتفاء بما تحقق.

القدوة مشروع حياة، يُترجم القيم إلى سلوك، ويجعل التأثير الإيجابي ممكنًا لا عبر الخطاب، بل عبر الفعل.

وفي ختام كل حديث عن القدوة، لا بد أن نتوجّه بأنظارنا نحو أعظم من جسّد هذا المعنى… رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال الله تعالى:
“لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرًا.”

لم يكن نبينا الكريم خطيبًا فحسب، بل كان قرآناً يمشي على الأرض. جسّد القيم في سلوكه، وكان الصحابة يتبعونه في كل كبيرة وصغيرة؛ إن ضحك، ضحكوا، وإن جلس جلسوا، وإن خلع نعله خلعوا نعالهم، حتى إذا سألهم: “لِمَ فعلتم؟” قالوا: “رأيناك تفعل ففعلنا”.

بهذا الحب والاقتداء، انتشر الإسلام. لا عبر الحروب أو الخطب الجوفاء، بل عبر التاجر الأمين، والصانع الصادق، والمعلم الرحوم.
دخلت أمم كبرى كإندونيسيا وماليزيا في الإسلام، لا على يد جيوش، بل على يد رجال ونساء كانوا قدوات حيّة تمشي بينهم.

أيها القارئ العزيز، إن أردت أن تكون قدوة، فابدأ الآن.
اجعل من حياتك رسالة، ومن سلوكك دعوة، ومن نفسك منارة.
كن صادقًا، مخلصًا، متواضعًا، صبورًا… فربما تكون أنت المنارة التي يهتدي بها الحائرون.

نوار بن دهري
NawarDehri@gmail.com

مقالات سابقة للكاتب

2 تعليق على “القدوة.. مشروع حياة

د ايمن عبد العزيز

ما أروع هذا النص الذي ينبض صدقًا ودفئًا وأصالة!

لقد لامس أعماق الروح، وحرّك فينا تلك الأشواق القديمة نحو المعنى، نحو النقاء، نحو الإنسان الحقيقي الذي لا يخدع ولا يتجمّل.
كل فقرة فيه تحمل رسالة، وكل جملة تضيء طريقًا. هو ليس مجرد مقال، بل دعوة هادئة عميقة، لأن نستيقظ من ضجيج الزمن وننظر في المرآة لنرى: من نكون؟ وماذا نُقدّم؟

الإشادة بالقدوة لم تأتِ تنظيرًا، بل كانت نابعة من تجربة، من موقف عابر تحوّل إلى لحظة وعي. وهذا ما منح النص صدقه العذب وعمقه النقي.

اللغة كانت عذبة دون تكلّف، والمشاعر صادقة دون مبالغة، والرسالة واضحة دون خطابة.
أما خاتمة المقال، فهي تاجه، إذ أعادت البوصلة نحو النور الكامل: نبيّ الرحمة، الذي لم يكن فقط قدوة في القول، بل في كل سلوك وتفصيل، حتى صارت أفعاله منارة للقلوب، قبل أن تكون مادة للحفظ والتدريس.

هذا النص لا يُقرأ فقط، بل يُستلهم.
شكراً لك على هذا البوح النبيل… ومشروع الكتاب الذي ذكرتَه؟
أظنه بدأ بالفعل من هنا.

لارا

المقال يقول لنا بالقدوة شيء مهم في حياتنا لأنها تعلمنا الأخلاق والسلوك الصحيح
وإننا لازم نقتدي بأشخاص صالحين وأفضل قدوة لنا هو الرسول محمد ﷺ
وفيه مشروع اسمه “كيف نكون قدوة؟” يساعد الناس يتعلمون القيم الطيبة بأساليب ممتعة مثل المجسمات والأنشطة وغيرها
خلاصة الكلام /
إذا صار عندنا قدوة طيبة يصير عندنا مجتمع أفضل وأخلاق أحسن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *