خلقنا الله في هذه الدنيا لنعبده، فهو رازقنا ومُحسنٌ إلينا، وأمرنا أن نسير على طريق الحق وألا نتبع خطوات الشيطان التي تجرنا إلى الضلال والهلاك.
رغم أن الحياة قصيرة، إلا أننا نجد أنفسنا غارقين في صراعات ومشاكل، نشهد قصصًا مؤلمة عن قطع صلة الرحم، وتدمير الحسد لعلاقاتنا وأرواحنا.
والله سبحانه وتعالى قد حذرنا من الوقوع في هذه المعاصي، وأخبرنا بأن الموت واقع لا مفر منه، وأن كل نفس ذائقة الموت.
وفي زمن يكثر فيه الحسد وتقطع فيه الأرحام، وتهب الفتن التي تفسد القلوب، نجت أختي أم وليد بحمد الله من هذه العواصف، وكانت حصنًا منيعًا للإيمان والصبر، ولم تدع لليأس أو الحقد مكانًا في قلبها.
تحملت الابتلاءات برضا واحتساب، وابتعدت عن كل ما يشغل القلب عن ذكر الله وطاعته، فكانت مثالًا حيًا لمن سار على درب الحق رغم قسوة الأيام وظلمات الدنيا.
في اليوم الذي دخلت فيه المستشفى، عرفنا الحقيقة الصادمة بأن أختي أم وليد مريضة بالسرطان، وأن المرض قد انتشر في جسدها، وأنها تحتضر. فكان الخبر صعبًا كالصاعقة على قلوبنا، وكأن الدنيا قد انقلبت في لحظة.
ذهبنا إليها في غرفتها، وكانت تكافح التعب والوجع بصمت، وطلبت منا كوب ماء وحبة دواء مسكن للألم، وكأنها تريد أن تخفف عنا قسوة اللحظة ببراءتها ورقتها. عندما ذهبنا أنا وأخي لنلبي طلبها، نظرت إلينا بابتسامة وجع خافتة وقالت لنا: “تعبتكم معي.”
كانت تلك الكلمات كالسهم الذي اخترق قلوبنا، وبكينا دون حبس، لأننا فهمنا حجم المعاناة التي كانت تخفيها عن الجميع، وحجم الحب الكبير الذي كانت تحمله وتكتنه لنا رغم ألمها.
إلى أختي الغالية أم وليد، التي رحلت ولكنّها لم ترحل من قلوبنا أبدًا،يا من حملتِ في قلبك صبرًا عجيبًا، وابتسامة لم تغادر شفتيك رغم الألم الذي مزقك من الداخل،يا من كنتِ البحر العميق من الأسرار والحنان،يا من علمتِنا معنى الصبر والاحتساب في وجه المحن،لقد كنتِ لي أكثر من أخت، كنتِ رفيقة الطفولة، وحاملة أحلامي الصغيرة،كبرتُ عليكِ بفارق 7 سنوات ، فكنتِ بين يديَّ كزهرة نمت بعناية، لعبتُ معكِ وضحكنا معًا،وكنتُ فخورًا بكِ وأنتِ تتعلّمين وتشرقين نبوغًا وذكاءً لا يُخفى،كنتِ النبوغ الكبير في عينيّ، وقصيدة من نور في سماء حياتنا،أختٌ بين أخوات، لا تشبه إلا نفسها، ولا تعوض في القلوب أبدًا.
كانت لك أخوة يكبرونك بــ 25 عامًا، لكنكِ كنتِ لهم أكثر من أخت صغيرة،كنتِ بنتهم، رضعتِ حنانهم ولعبتِ معهم، نمتِ كزهرة نادرة في وسط الأسرة،
أسعدت ِالجميع بابتسامتك وبراءتك، وأحبك كل من عرفك، فقد ملأ حبك المكان دفئًا لا يُنسى.
أتممتِ تعليمك الجامعي بجد واجتهاد، وصرتِ معلمة كيمياء تبثين العلم والمعرفة في طريق طالباتك على مدار السنين الطوال بدون كلل أو ملل.
بمحبتك الكبيرة جمعتِ شمل الأسرة، ووضعتِ جسور المحبة بين الجميع، وكنتِ رمز الوحدة والوئام، تجمّعت تحت سقف واحد عائلتان بقلب واحد،لا غربة ولا خصام، بل مودة ورحمة تدوم.
أرادت أختي وهي تصارع المرض المميت أن تؤمن مستقبل أولادها، فاستقرضت من البنك وأعانها زوجها الكريم لتبني بيتًا يحمل أرقى الأثاث وأجمل التفاصيل،بيتًا ملؤه الحب والدفء، لم تسكنه هي، لكنها تركته لهم أمانًا وحماية، إرثًا يبقى لهم رغم رحيلها المبكر.

أختي الحبيبة، أخفت عن العالم مرضها أربع سنوات كاملة، ولم تبوح بسريتها إلا لزوجها فقط،لتُبقي على قلوب من يحبونها بعيدًا عن الحزن والهم.
أخفَت ألمها وحزنها حتى لا يذرف أحد دمعة على تعبها، و لا تثقل قلوب من يحبونها،وحتى لا يشعروا بالألم الذي تحمله في صمتها. ولم نعرف الحقيقة إلا قبل وفاتها بيوم واحد فقط ؟!،عندما أخبرنا الأطباء أن السرطان قد انتشر في جسدها كله، وأنها تحتضر.
كنتِ بارة بوالديك، تحملين لهم كل حب ووفاء، ولم تشتكي يومًا،رغم ما حملته من ألم وصبر في صمت، كنتِ مثالًا للصبر والاحتساب،والقوة في وجه المحن، ولم تسمحي لليأس أن يسرق منك روحك الجميلة.
في أيامها الأخيرة، كانت أم وليد تحمل في قلبها أعباء الألم والصبر، لكنها لم تفقد تواضعها ورقتها أبداً.
قبل دخولها المستشفى بأيام قليلة، حضرت مناسبة زواج، كانت بين الحضور وهي في قمة الألم، تحمل هديتين؛ واحدة للعروس، وأخرى لأم العروس.
كانت صابرة محتسبة، تتحمل الألم بهدوء وجلد، تُظهر للحياة وجهها المشرق رغم كل ما يعصف بها من عواصف وتحديات.
هي تلك الروح النادرة التي تعلمنا منها أن الشجاعة ليست في أن لا نتألم، بل في أن نبتسم رغم الألم، ونحب رغم الحزن، ونواصل العطاء رغم التعب.
ها نحن اليوم نودعك بعيون دامعة وقلب مفجوع، نودعك وأنتِ في رحلتك الأخيرة إلى دار السلام،
دار لا ألم فيها، لا مرض، ولا فراق،دار الرحمة التي وعدنا الله بها، حيث اللقاء الأبدي والسكينة الدائمة.
أختي الحبيبة، كيف لي أن أحتمل فراقك وقد تركتِ خلفك ذكريات لا تمحى، وأطفالًا يحتاجون لحنانك الذي لن يعود؟كيف أتحمل أن أراكِ تغادرين دون أن تودعيهم بكلمة حب، دون أن تهمسي لهم قبل الرحيل؟كيف أخبرهم أن الحياة قصيرة، وأنها لم تكن تستحق أن نغفل عنها للحظة؟
لقد كنتِ معلمة في الحياة، علمتنا درسًا لا يُنسى،
أن القوة الحقيقية في الصبر،وأن الحب الحقيقي لا يحتاج للكلمات، بل يُشاهد في الأفعال والابتسامات رغم الألم.كنتِ صامدة، تخبئين ألمك عنا، تكتمين سرك وحيدًا،كنتِ تُحاربين في صمت، لا تريدين أن تثقلي على من تحبين،وكأنكِ تقولين لنا: “لا تبكوا لأجلي، كونوا أقوياء، فهذه الدنيا فانية.”
اليوم، دموعنا ترويك، ودعواتنا ترفرف حولك،
اللهم ارحم أختي سمية برحمتك الواسعة، واغفر لها زلاتها، واجعل قبرها روضة من رياض الجنة،اللهم اجمعنا بها في الفردوس الأعلى من الجنة، حيث لا فراق ولا ألم ولا وداع.
يا من كانت روحك نورًا في عتمة الأيام،يا من كانت ابتسامتك الشمس التي تشرق في ليالينا المظلمة،
نمِ قريرة العين في جنات النعيم،فنحن نحبك، وندعو لك، ولن ننساكِ أبدًا.
اللهم اجعل صبرنا على فراقها طريقًا إلى مرضاتك، وارزقنا القوة لنكمل دربها بمحبة وإيمان.
اللهم آمين.
وفي الختام، نسأل الله العلي العظيم أن يتقبل أختنا الحبيبة أم وليد بواسع رحمته، وأن يجعل مثواها الجنة بغير حساب، وأن يرزقنا جميعًا الصبر والسلوان على فراقها.
علّمنا رحيلها أن الحياة قصيرة، وأننا كلنا في رحلة إلى دار لا رجعة منها، فلتكن ذكراها نورًا يضيء لنا الطريق، وصبرها قدوةً نحتذي بها في مواجهة الابتلاءات.
نسأله سبحانه أن يجمعنا بها في الفردوس الأعلى، حيث لا فراق ولا ألم، ويمنحنا القدرة على محبة بعضنا وإصلاح ذات البين، والتمسك بحبل الله المتين.
اللهم اجعلنا من الصابرين المحتسبين، وارزقنا حسن الخاتمة، واجعل موتنا على طاعتك، واجمعنا بأحبائنا في جنة عرضها السماوات والأرض، آمين يا رب العالمين.
نوار بن دهري
NawarDehri@gmail.com
مقالات سابقة للكاتب