أنا آسف!!

في زحمة الحياة، تمضي الأيام مسرعة، وتغمرنا تفاصيلها حتى ننسى أحيانًا أن نتوقّف لحظة، لننظر في المرآة بصدق، ونتأمل وجوه من حولنا وقلوبهم التي تأثرت بنا، سلبًا أو إيجابًا. وربما نمر في محطات نُدرك فيها – متأخرين – كم قصّرنا، وكم جرحنا من دون قصد، وكم غفلنا عن أداء واجب أو قول كلمة حق أو شكر أو اعتذار.

وهنا، في هذه اللحظة الفارقة، لا يجد القلب ما هو أصدق من كلمة: أنا آسف… لا ضعفًا، بل قوةً، ولا انكسارًا، بل رجولةً ونضجًا ومسؤولية.

ومن هنا، أكتب كلماتي هذه، لا طلبًا للعذر فقط، بل رغبةً في عبادة الله سبحانه وتعالى الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ، ومع نفسي، ومع كل من مرّ بي وكان له حق لم أؤده.

أنا آسف.

لا أقولها ككلمة تخديرية أو عابرة، ولا لكسب رضا مؤقت من أحد، بل هي كلمة نابعة من أعماق الشعور، كلمة صادقة تعبّر عن اعتذار عميق، وطلب للصفح ممن له حق عليّ وقصّرت في أدائه، أو ممن اعترض طريقي ولم أوفه قدره المستحق.

أبدأ أولاً بطلب المعذرة والأسف من خالقي ورب العالمين. كم من مرة آثرت هوى نفسي على الحق! وكم قصّرت في جنب الله! وكم تجاوزت الخطوط الحمراء في غفلة وجهل مني، أو تحت وطأة ضعف لا يليق بمن يعرف عظمة مولاه! فلك يا الله خالص اعتذاري فقد ظلمت نفسي واعترفت بذنبي وهذه توبتي، ورجائي في عفوك وسترك وناصيتي بين يديك فاقبلني وتب عليّ.

أنا آسف لوالديّ الكريمين، اللذين لم أبرّهما كما يليق بمن بذلا الغالي والرخيص لأجلي. لم يتوانيا يومًا عن راحتي، مذ كنت طفلًا صغيرًا لا حول له ولا قوة، إلى أن صرت شابًا يافعًا أواجه الحياة بثقةٍ كنتُ مدينًا بها لرعايتهما ولو بذلت نفسي وما أملك لهما لم أكافئ زفرةً من حمل والدتي بي.

أنا آسف لابني الوحيد، الذي ربما كنت له أبًا غائبًا في أوقات كان في أمسّ الحاجة إليّ. لم أكن لك كما تمنيت، وربما يحمل قلبك من العتب أكثر مما أحتمله أنا. الأقدار والظروف باعدت بيننا، لكنها لم تنزع حبك من قلبي، ولم تُنسني واجبي نحوك. فاعذر أباك، وامنحه فرصة أن يعوّضك بما يستطيع.

أنا آسف لكل تلميذ علّمته إذ لم أكن له المعلّم المثالي. ذلك القدوة الذي يُفترض أن يبذل من وقته وجهده للرقي بتلاميذه ومواهبهم. فإن قصّرت مع أحد، أو لم ألتفت إلى حلمه أو احتياجه، فأنا أعتذر له من القلب.

أنا آسف لكل صديق نشأت بيني وبينه علاقة وفاء، ثم خذلته يومًا، أو تخلّفت عن دعمه في موقف كان يستحق وقوفي بجانبه. لم يكن ذلك نكرانًا لصداقته، بل ربما كان غفلة أو قسوة ظرف. وأنا أُدين له اليوم باعتذاري وامتناني.

أنا آسف لأمّتي العظيمة، التي قصّرت في حقّها ولم أكن عضوًا فاعلًا في مسيرة نهضتها. لم أقدّم كما ينبغي، ولم أكن حجرة بناء في صرحها الكبير. لعلّ في بقية العمر فرصة للتدارك والعطاء، ولو في حدود ما أستطيع.

أنا آسف لكل من وقف على باب مسجد يطلب حاجته ولم أمد له يدي، ولكل من سألني بالله فلم أعطه، ليس بخلاً، ولكن ربما غفلةً أو تهاونًا أو قسوة لحظية في القلب لا تليق بمسلم. هؤلاء المساكين كانوا امتحانًا لرحمتي وقلبي، وقد أخفقتُ. فليسامحني الله، وليمنحني الفرصة أن أكون أكثر عطاءً ورِقّة ورحمة فيما بقي من عمري.

أنا آسف لكل من رأيت فيه موقف ما لا يعجبني فاغتبته، ولكل ضحكة طلعت مني سخريّة، ولكل سوء ظن أسأتُه بأي أحد . كم من مرّة ارتكبت هذه الأخطاء دون أن أنتبه إلى حجم الألم الذي تسببت فيه لمن حولي. فالغِيبة سخيفة، والسخرية قاسية، والمعتقدات السلبية كانت نظرة سريعة مني لغيري في لحظة غفلة، ولكن الآن أعلم أن كل واحدة من تلك اللحظات كانت خطأ يجب تصحيحه. فاعذروني جميعًا.

أنا آسف لكل شيء قصّرت فيه.

أسفي هذا ليس مجرد اعتراف، بل هو وعد داخلي بالتغيير، ونداء للتصحيح. فربما يكون فيما تبقى من العمر متسعٌ لإعادة توجيه دفة حياتي نحو النور والإشراق وبر الأمان والسعادة والنجاح والبدء من جديد على أسس من الصدق والنية الصالحة.

ولعلّ الله أن يكتب لي بداية جديدة، يرضى فيها عني، ويرضى عني من حولي.

وختاما فالاعتذار مفهوم قرآني روّج له في غير آية وحث عليه السنة المطهرة وكتب السيرة وتراجم الصالحين من سالف أمتنا حافلة بتقديم الاعتذار وقولهم أنا آسف لم يستنكف عن قولها خيار الناس حينما أخطأوا وبان لهم المحجة فأذعنوا بقوله.

 نوار بن دهري
NawarDehri@gmail.com

مقالات سابقة للكاتب

تعليق واحد على “أنا آسف!!

عبدالناصر الزهيري

حيانًا يظن الإنسان أنه مقصّر بينما هو في الحقيقة يسقي قلوبًا من حوله وفاءً وعطاءً كثرة الاعتذار ليست ضعفًا بل رهافة إحساس وسموّ روح وما دام القلب مخلصًا فالغد يحمل من الثمار ما يليق بالتعب الجميل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *