سلام يا دنيا !!

كنتُ مثل غيري… أستيقظ على ضوضاء التلفاز، وأنام عليه.
أمضي إلى المدرسة، فالجامعة، ثم العمل، كأنني دمية تسير بإرادة غيرها، مقيدة بإغلال لا أملك كسرها.
أشعر أنني في قطار لا أعرف وجهته، ولا أملك حتى تذكرة النزول. كل شيء يُفرض عليّ: طعامي، حديثي، ملابسي… حتى ضحكتي لم تكن صادقة.

كنت أبحث عن نكتة تُضحكني، أو فيلم هزلي ينسيني، أو أي لحظة بهجة تُعيد لروحي بريقًا ضائعًا.
لكن كل ذلك كان قشرةً هشة، تخفي وراءها قلبًا يبكي في صمت.
أجلس في المجالس، أضحك… لكن داخلي كان يصرخ.

كنت أخاف من كل شيء… المغامرات، العلاقات، الناس، حتى من نظرات العابرين.
أؤدي صلواتي كعادة، بلا خشوع، بلا شوق.
أقرأ القرآن لأهدأ، لا لأهتدي.
أغوص في كتب تطوير الذات، أبحث بين صفحاتها عن فتيلٍ ينير لي عتمتي.
وكلما أغلقت كتابًا، همست من أعماقي: “يارب… يارب… دلّني عليك.”

وحدث ما لم أتوقع…
كأن قلبي انتفض فجأة من غفلته، كأن آيةً مرّت أمام عيني فأيقظتني، أو دعوةً صادقة من أمٍ أو مُحبٍ اخترقت أبواب السماء.
شعرتُ بنورٍ يتسلل إلى داخلي… نورٌ لم يكن من هذا العالم.

نعم… وُلدت من جديد.
أدركت أن لحياتي معنى… أن وجودي لم يُخلق عبثًا.
وجدت في قلبي يقينًا عميقًا: أن غايتي هي عبادة الله عبادة المُحسن، عبادة من يعلم أنه يُراقب من يُحب.
لم أعد ذاك التائه في زحام الحياة، بل أصبحتُ أركض إلى الله، لا منه.

اطمأنت روحي، وهدأت عواصف نفسي.
تحولت الصراعات التي كانت تنهشني إلى نسائم تنثر الخير.
لم أعد أرغب في الدنيا، بل فيما عند الله.
بايعتُ ربي على السمع والطاعة… بايعتُه على الصدق والثبات.
انتصرت على نفسي، وتحولتُ من تابع إلى مؤمن، من تائه إلى سائر بثقة ويقين.

آمنت أن الحياة حفلة تنكرية… الكل يرتدي أقنعةً زائفة، يُخفي آلامه خلف ابتسامة.
أما أنا، فقد حضرت الحفلة بلا قناع… كنت أتمزق من الداخل، أبحث عن السلام فلا أجده.
اعتزلت، بحثت في الخلوة عن السكينة… لكن خلواتي لم تكن لله، بل كانت هروبًا، فزادتني وحدةً وضياعًا.

ثم… رويدًا رويدًا، بدأت أغرّد وحدي، خارج السرب،
وكنتُ أسمع داخلي نداءً خافتًا، لكنه صادق… يدلني على الطريق.
وكلما سرت نحوه، زاد النور، وقلَّت الوحشة.

الآن… أنا في معية الله.
لا أخشى تقلّبات الزمان، ولا صخب الحياة.
فمن كان الله معه… فماذا يخشى؟
ومن وجد الله… فماذا فقد؟

اليوم… الحياة تبتسم لي من جديد.
أشعر بطُهر الطمأنينة، بلذّة القرب، بحلاوة اليقين.
أحب الخير للناس جميعًا… لا أحسد، لا أحقد، أتمنى السلام لكل قلبٍ نابض.
توقفت عن السباق المحموم نحو الدنيا، وصرت أركض نحو الله.

واليوم، أنظر إلى الدنيا كلها وأقول لها بابتسامة:
“سلام يادنيا”
فقد اكتشفتُ طريقي… وقلبي معلقٌ بالسماء.

 

نوار بن دهري
NawarDehri@gmail.com

مقالات سابقة للكاتب

تعليق واحد على “سلام يا دنيا !!

الكاتب علي محمد قاسم

نحيي الكاتب الاديب ونثني عليه بهذا المقال الممتع والنفيس بكل صدق وامانة.
ما شاء الله تبارك الله
ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *