قراءة في الذاكرة
تشكُّكٌ دائم يساورني في وجود تنظيم حقيقي لاهتمامات المغاربة؛ تنظيم يقوم على وعيٍ بالزمن ورؤية مستقبليه. وقد أشرنا سابقًا إلى بعض أوجه النقص في ضروريات السوق: محلات الفضة، الملابس، الأواني المنزلية… إلخ. واليوم نسلّط الضوء على قضية أخرى شديدة الأهمية: مشكلة الماء في الحارة.
لقد اعتمد الأهالي طويلًا على الآبار المحفورة داخل الحارات، وكان استخراج الماء منها يتم بالدِّلاء، بينما يقع العبء الأكبر على النساء في نقله إلى البيوت بثلاث وسائل: القِرَب، قدور الطبخ، والجردل (المسمى بالبالدي). وقد توزعت هذه الآبار، وما نعلمه منها أربعة: البئر الشامية، بئر ابن يحيى، بئر عبد الرحمن ابن حمادي، بئر السيدة. ونحن على يقين بوجود آبار أخرى لم تُحصَ.
ظل الاعتماد على هذه الطريقة قائمًا حتى بادرت العزيزية بإنشاء وحدات لتوصيل الماء، موزعة على التجمعات السكنية، كمرحلة ممهِّدة لمد شبكة كاملة تصل إلى المنازل فيما بعد. غير أن العجيب أن أحدًا لم يسعَ إلى استنساخ تجربة المدن القريبة – جدة، مكة، المدينة – رغم كثرة ترددهم عليها. وهي تجربة لم تقتصر على توفير الماء بأقل التكاليف، بل أوجدت فرص عمل، واستدعت بناء خزانات لحفظ المياه، الأمر الذي خفف من أعباء النساء، وصان كرامتهن.
ويبلغ الاستغراب ذروته حين نتأمل حال السوق اليوم، والنشاط الاقتصادي للمغاربة بخليص. فقد كان المغاربة حتى عهد قريب ملوك السوق وسادة الاقتصاد، حتى غدا هذا النشاط ظاهرة مغربية بامتياز، وحكرًا عليهم. شكَّل ذلك ثقلًا في البنى الاجتماعية، وعزز مكانتهم القبلية. لكنهم لم يواكبوا مسيرة التطور، فانفلت من أيديهم خيط المصالح، لينتقل إلى آخرين من خارج السرب، محليين وأجانب. تبدلت اللافتات، وبهتت الأسماء، حتى غدت بعض المواقع كالأطلال التي يتغنى بها شاعر جاهلي!
وقد سعيت جاهدًا إلى تفسير هذا الوقوف عند عتبة الماضي دون رغبة في المغامرة؛ وكأن الزمن عندهم يتحرك أفقيًا بوتيرة متتابعة لا تتغير، لا رأسيًا حيث تنفتح اللحظة الواحدة على أبعادها، وتعبر من الماضي إلى الحاضر فالمستقبل. وأكبر شاهد على قصور الفكر الاقتصادي لدى المغاربة آنذاك، هو استثمار الشيخ فرج الله المسعودي في مزرعة البيد، استثمار بدا كفتنة تُطل من شرفات الغروب، فيما كان رجال السوق يغطون في نوم مبكر!
محمد علي الشيخ
مقالات سابقة للكاتب