عبادة قلبية عظيمة

التوكل على الله وحده عبادة قلبية عظيمة، حقيقتها الاعتماد على الله وحده في جلب النفع ودفع الضر، فلا يجوز أن تقول: توكلت على الله ثم فلان، كما قال أهل العلم، ولكن تقول: توكلت على الله ثم وكلت فلان، لأن التوكل الصادق لا يكون إلا الله جلّ في علاه، وقد كان أحد السلف يقول في دعائه: “اللهم إني أسألك صدق التوكل عليك وحُسن الظن بك “.

‏قال الله تعالى في سورة النحل: (( والذين هاجروا من بعد ما ظُلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون * الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون )) قال السعدي رحمه الله بتصرف يسير: ” صبروا على أوامر الله وعن نواهيه، وعلى أقدار الله المؤلمة، وعلى الأذية فيه، وعلى المحن والمصائب، ثم قال: (( وعلى ربهم يتوكلون )) أي: يعتمدون عليه في تنفيذ محابه، لا على أنفسهم، وبذلك تنجح أمورهم، وتستقيم أحوالهم، فإن الصبر والتوكل مِلاك الأمور كلها، فما فات أحداً شيء من الخير إلا لعدم صبره، وبذل جهده فيما أريد منه، أو لعدم توكله واعتماده على الله “.

‏قال الرازي صاحب التفسير الكبير: ” والذي جربته من أول عمري إلى آخره أن الإنسان كلما عوّل في أمر من الأمور على غير الله صار ذلك سببا إلى البلاء والمحنة، والشدة والرزية، وإذا عوّل العبد على الله ولم يرجع إلى أحد من الخلق حصل ذلك المطلوب على أحسن الوجوه فهذه التجربة قد استمرت لي من أول عمري إلى هذا الوقت الذي بلغت فيه السابع والخمسين، فعند هذا استقر قلبي على أنه لا مصلحة للإنسان في التعويل على شيء سوى فضل الله تعالى وإحسانه “.

‏” التوكل يعزز الأمل حتى في الظروف الصعبة؛ لأنه يربط القلب بالله القادر الذي لا يعجز، الرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء، الحي الذي لا يموت، الحكيم الذي لا يقع في كونه وخلقه عبث، العالم الذي لا تخفى عليه خافية، ولذا كان قرين الربوبية والتوحيد، قال الله: (( رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا )) “.

‏” وأعظم المنازل التي يُعطاها العبد؛ منزلة التوكل، وقبلها منزلة العبودية ولا ينال أحد هذا الوشاح، ولا يلبس هذا التاج؛ إلا من أرغم نفسه في باب العبودية لله، وكلما كان حظ العبد من مقام العبودية عظيماً، كان حظه من التوكل أعظم، وإذا كان حظه من التوكل أعظم، نجّاه الله جل وعلا وكفاه وآواه وبصّره في الشيء الذي يريده كيف يصل إليه، وسخّر له الأسباب. قال تعالى: (( ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه )) “.
‏وتأمل أيها المبارك الآية، قال ربنا عز وجل كأنه يخبرنا لِمَ علينا الإخلاص في عبادته والتوكل عليه وحده: (( ولله غيب السموات والأرض )) ثم قال أيضا: (( وإليه يُرجع الأمر كله )) فمن كان غيب السموات والأرض لديه والأمر كله يرجع إليه كان حقيقا بالمؤمن ألاّ يتوكل إلا عليه، لذا قال بعدها: (( فاعبده وتوكل عليه )).
‏وصدق والله من قال:
‏” من اعتمد على علمه زل، ومن اعتمد على غيره ذل، ومن اعتمد على نفسه ضل، ومن اعتمد على ماله قل، ومن اعتمد على الله جل في علاه لا زل ولا ذل ولا ضل ولا قل “.

‏ومن تأمل قصص الأنبياء في القرآن وقصص الصالحين عبر الأزمان وجد قلوبهم قد مُلئت توكلاً عظيما على الله في كل أحوالهم، بل كلما اشتد الأزمات زاد التوكل على رب الأرض والسموات:
‏_ نبينا صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم (( الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل )) فكان الجزاء: (( فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء ..)).
‏_ ونبي الله موسى عليه السلام حين حوصر هو ومن معه فالبحر من أمامهم وفرعون من خلفهم، فقال له قومه: (( إنا لمدركون * قال كلا إن معي ربي سيهدين )) فكان الجزاء أن فلق الله له البحر.

‏قبل الختام:
‏بقي التنبيه على أن صدق التوكل لا ينافي الأخذ بالأسباب، فالتوكل على الله وحده توحيد لله، والأخذ بالأسباب اقتداءٌ برسول الله صلى الله عليه وسلم، بل إن الأخذ بالأسباب من التوكل، فالله هو الذي خلق تلك الأسباب إن شاء أنفذها وإن شاء عطلها، فالمومن الصادق يتوكل على الله ويأخذ بالأسباب الممكنة والمتاحة وقلبه معلق بمن خلقها لا بها، هناك يأتي الفرج والتيسير من الله الكريم اللطيف الخبير.

‏ختاماً:

‏” إني إليك مع الأنفاس مُحتاجُ
‏لو كان في مَفرقي الإكليلُ والتّاجُ “

‏اللهم إنا نبرأ من حولنا وقوتنا ونلجأ إلى حولك وقوتك، فارزقنا برحمتك صدق التوكل عليك وحسن الظن بك ما امتدت بنا الحياة، فلا حول ولا قوة إلا بالله.

د. سعود بن خالد

مقالات سابقة للكاتب

تعليق واحد على “عبادة قلبية عظيمة

نورة عبدالله يوسف

التوكل على الله وحده عباده ..وغاية حلقنا في الدنيا ان نعبده وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير

طرح مبارك ..كتب الله اجركم ونفع بكم عباده

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *