نهاية الظالم!

في كل زمان ومكان، تتكرر الحكاية وإن اختلفت الوجوه والأسماء: ظالم متجبر يظن أن سلطته خالدة، وأن جبروته لا يُقهر، ومظلوم ضعيف يئن تحت وطأة القهر، لكنه يؤمن في قرارة نفسه أن العدل لا بد أن يعود، ولو بعد حين!

تظل قصة فرعون النموذج الخالد لمآلات الطغيان، ودليلاً على أن نهاية الظلم قادمة لا محالة، مهما طال أمده واشتد سواده. ليست قصة فرعون مجرد رواية دينية تُروى، ولا فصلًا من التاريخ انقضى، بل هي مرآة فلسفية تعكس قانونًا إلهيًا راسخًا في طبيعة الوجود: أن القوة بلا عدل إلى زوال، وأن الاستبداد، مهما بلغ ذروته، فإنه يحمل في داخله بذور فنائه!

كان فرعون أحد أبرز رموز الاستبداد في التاريخ الإنساني؛ ملكًا تأله، وادّعى الربوبية، واستعبد الناس باسم القانون والجبروت. استضعف بني إسرائيل، يقتل أبناءهم ويستحيي نساءهم، ظنًّا منه أن ملكه محصّن وسلطانه لا يُزحزح. لكنه غفل عن حقيقة كونية عميقة: أن لله تدبيرًا فوق تدبير البشر، وأن في الكون ميزانًا لا يختل، وإن ظنّ الظالمون أنه اختل!

إن الطغيان لا يولد في لحظة، بل يتغذّى على الخوف، ويستمدّ وجوده من صمت الهمج. وحين خاف فرعون من رؤيا في منامه، تنبأت بزوال عرشه على يد غلام من بني إسرائيل، انقلب خوفه إلى جنون، فبدأ يقتل الأبرياء اتقاءً لقدرٍ لا مفرّ منه، فكان أول من ابتلعه خوفه هو نفسه!

القصة ليست فقط درسًا في العقيدة، بل أيضًا درسٌ في الفلسفة النفسية والروح الإنسانية: حين يفقد الظالم ثقته في عدالة قضيته، يلجأ إلى البطش لتثبيتها، لكنه في الحقيقة يوقّع بيده على نهاية سلطانه. فالقوة التي لا تستند إلى الحق، كالبناء الذي يقوم على الرمل؛ قد يعلو مؤقتًا، لكنه لا يصمد أمام أول موجة. لكن فرعون لم يكتفِ بالرفض، بل حوّل خوفه إلى حرب على النور ذاته. ومع كل آية ومعجزة، كان قلبه يزداد قسوة، حتى جاءت لحظة الحقيقة الكبرى!

انشقّ البحر لموسى وقومه، ثم انطبق على فرعون وجنوده. لم يكن مشهدًا أسطوريًا، بل لحظة رمزية خالدة: البحر رمزٌ للمجهول، انفتح لأهل الإيمان، وابتلع أهل الطغيان. وهنا يتجلّى المعنى الأعمق: أن من يسير في طريق الحق، ينشقّ له البحر، أما من يعاند سنن الله، يغرق في ظلمة نفسه!

تتكرر قصة فرعون بأشكال شتى: في مختلف المناحي، في أغلب المشاهد، بل في كل قلبٍ يتكبر، وكل عقلٍ يرفض النور، وكل إنسانٍ يظن أن سلطته تعفيه من ضمير أو حساب.

نهاية فرعون لم تكن لأن موسى كان أقوى، بل لأنه كان أصدق. فالإيمان أعتى من الحديد، والحق أثبت من العروش. إن الظالم لا يُهزم حين يسقط فحسب، بل يهزم في كل لحظة يظلم فيها وهو يظن أنه منتصر، لأن كل ظلمٍ يُقصيه خطوة عن الرحمة، ويقرّبه خطوة من الهاوية!

فلنتأمل: هل نمارس في حياتنا ظلمًا صغيرًا لا نراه كذلك؟ هل نغترّ “بكرسي حلاق” أو مالٍ زائل أو منصبٍ عابر؟ إن الفرعونية ليست لقبًا لزعيم، بل حالة نفسية تبدأ حين يتوهّم الإنسان أنه فوق الآخرين، أو حين ينسى أن القوة أمانة، لا امتيازًا.

حين نروي قصة فرعون لأبنائنا، فإننا لا نحكي لهم فصلًا من الماضي، بل نزرع فيهم وعيًا أخلاقيًا خالدًا: أن الظلم طريق قصير وإن بدا ممهدًا، وأن الحق – مهما حوصر – لا يُهزم، لأن الله وعد، ووعده حق. “إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا… إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ”. “فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى، إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى”.

ختامًا، تذكّر أن العدل ليس شعارًا عابرًا، بل فلسفة حياة. وأن الحرية نتاج وعي. وأن الظالم – مهما تجبّر – لا يملك أن يؤخر وعد الله طرفة عين. فالله وعد، ووعده حق: “أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ”، ولكن!!

عيسى المزمومي

مقالات سابقة للكاتب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *