الوطن.. والثنائيات الشعرية!!

د. يوسف العارف

قراءة في القصيدة الوطنية (قصور من شجر الرخام)

للشاعر الدكتور نواف أحمد الحكمي

(1) وجاء اليوم الوطني الخامس والتسعين، واحتفل الوطن بيومه الوطني شعراً ونثراً وفعاليات متنوعة، وامتلأت الذاكرة بمعطيات نوعية، ومبادرات مجتمعية، وفعاليات تنموية… وكلها شواهد على ما للوطن من مساحة إجلال وتقدير واعتزاز في نفوس أبنائه المواطنين والمقيمين على حدٍّ سواء والذين مازالوا يرددون شعاره المختار لهذه المناسبة (عزنا بطبعنا)، والذي يترجم الطباع الأصيلة للشعب السعودي من كرم وجود وشهامة وأصالة وطموح وعزة وهوية وإرث ثقافي عميق وعريق!!

*   *    *

(2) ومن الشعر الذي ترجم الأحاسيس والمشاعر الوطنية، هذه القصيدة التي ألقاها صاحبها في مهرجان شعري كبير أقامه نادي أصدقاء الأدب/ صالون الصعابي في جازان مساء الأربعاء 2/4/1447هـ احتفاءً باليوم الوطني، وهي للشاعر الدكتور نواف بن أحمد الحكمي.

   لقد أذهلتني القصيدة حال استماعي لها مسجَّلة على اليوتيوب، وجعلتني أتقافز فرحاً بها، وبفضاءاتها اللغوية والدلالية والأسلوبية، وجماليات إلقائها ورونقات مفرداتها، وسلامة بلاغتها وتشكيلاتها الشعرية.

   وأهم ما لفتني فيها تلك الثنائيات الشعرية التي يعدها النقاد ومتذوقي الشعر إحدى البنى التعبيرية اللغوية الرامية للربط بين مفهومين أو مفردتين متقابلتين (تضاداً أو تكاملاً) وذلك لإبراز فكرة جمالية يحرص الشاعر أن يوصلها للمتلقي/ القارئ والسامع. وهذه الأسلوبية الشاعرية من التقنيات الشائعة في شعرنا قديمه وحديثه ولكن قِلَّةً من الشعراء ممَّن يتقن هذا الفن الشعري والأسلوبي لامتلاكهم الكثير من المفردات والخصائص اللغوية والتي تثري قاموسهم الشعري ويضفي جمالية على النص/ القصيدة ويساعد على الكشف عن الأبعاد الدلالية والأسلوبية في النص الشعري.

*   *    *

(3) وبناءً على هذه المعطيات التنظيرية، تجلت هذه الظاهرة الجمالية في القصيدة التي جاءت تحت عنوان/ قصور… من شجر الرخام وفيها وجدنا بعض المفردات التي تكررت وشكلت بنى ثنائية في متن النَّص/ القصيدة، راسمة جمالياتها الشعرية، وأسلوبيتها الشاعرية وهي كما جاءت في الأبيات التالية:

أتيت وكل زاوية حِمَامٌ

فصارت كل زاوية حَمَاما

****

ومن شجر الرّخَامِ صنعت مجداً

فأينع منظراً وزها رُخَاما

****

نحب ترابها الفِضِّي دفئاً

ونَعْشَقًها حلالاً أو حَرَامَا

****

هنا أرض الجنوب ألا فقوموا

لها حبَّاً وحيوها احتراما

****

على شرفاتها الشهداء ماتوا

كراماً مثلما عاشوا كِرَاما

****

سعوديون نسلاً بعد نسلٍ

نشامى ينتمون إلى نشامى

****

فسلمان الإمام وأي فخر

إذا ما كان سلمانٌ إماما

****

تراه وهو متكئ عظيماً

وما كل الملوك ترى عِظَاما

****

وتسمعه إذا ألقى كلاماً

كأنك قبل لم تسمع كَلاَمَا

****

مهيباً حكمة الأجيال تبدو

عليه تضيئه عاماً فعاما

   وفي هذه الأبيات نجد الثنائيات المتكاملة مثل:

  • رخام/ رخاما
  • كراماً/ كِرَامَا
  • نشامى ينتمون إلى نشامى
  • سلمان الإمام/ سلمان إماما
  • عظيماً / عظاما
  • كلاماً/ كلاما
  • عاماً/ فعاما

   كما نجد الثنائيات المتضادة مثل:

  • حِمَام/ حَمَاما
  • قصور / خياما
  • صهيل/ لِجاما
  • حلالاً/ حراما
  • حباً/ احتراما
  • حساماً/ سهاما

   وهنا يأتي التوظيف الشعري والجمالي لهذه المفردات في ثنائياتها المتكاملة أو المتضادة، لتعطي للقصيدة زخماً انفعالياً وشاعرياً مما يمنح النَّص/ القصيدة عمقاً وتأثيراً، ودلالة على قدرة الشاعر لتوليد الصور الشعرية المبتكرة وتجسيد المتناقضات الكامنة في الواقع وقدرتها على التماهي مع الأدوات الفلسفية العميقة التي تجسد رؤية الشاعر للكون وإثراء النص الشعري وإكسابه قوة وديمومة تأثيرية على المتلقي والسامع.

*   *    *

(4) ومع هذه الجمالية الأسلوبية التي اتبعها الشاعر نواف الحكمي لإثراء قصيدته الوطنية بهذه الثنائيات التكاملية والضدية إلا أن لنا بعض الوقفات النقدية التي تزيد القصيدة وهجاً وجمالاً فيما لو أعاد بناء النَّصْ وتعديله في الطبعة الجديدة للنص ضمن ديوان جدبد وقريب.

   أولاً: عنوان القصيدة/ وهو العتبة النصية الموازية التي تفتح آفاق المتن الشعري على فضاءاته المتعددة، فقد اختار الشاعر العنوان التالي: قصور… من شجر الرخام. وهو عنوان مستنبت من داخل النص/ القصيدة!! ففي البيتين الخامس والسادس يقول الشاعر:

وفي صحرائك إنتفضت قصور

ممردة وقد كانت خياما

****

ومن شجر الرّخَامِ صنعت مجداً

فأينع منظراً وزها رُخَاما

   ولعل التقابلية التي أرادها الشاعر بين القصور وشجر الرخام أضعفت هذه العتبة العنوانية.. فلو قال الشاعر:

ومن حجر الرخام صنعت مجداً… لكان للقصر معنىً قوياً أما المعنى (الشجري) هنا فيضعف المعنى القوي الذي يريده الشاعر لهذا الوطن الصَّلب/ الوطن الشاهق العظيم/ الوطن العالي والمتعالي!!

   ثانياً: في البيت التاسع يقول الشاعر:

نحب ترابها الفضِّي دفئاً

ونعشقها حلالاً أو حراما

   أعتقد أن العشق للوطن لا يكون إلا حلالاً، فـ (حب الوطن من الإيمان) لكن مفردة حراماً هنا جاءت للدلالة على العشق الذي ليس له حدود، الذي يتجاوز (القيم والمألوف) حتى ليدنو من (المحظور) وهو تعبير عن شدة التعلق والعشق المبالغ فيه!!

   ثالثاً: في البيت العاشر:

هنا أرض الجنوب ألا فقوموا

لها حبَّاً وحيوها احتراما

   هذه الثنائية ليست متضادة ولا متكاملة ولا متقابلة!!

   ولكي تكون كذلك… نقول:

هنا أرض الجنوب ألا فقوموا

لها حبَّاً.. وحيوها قياما

   رابعاً: في البيت السابع عشر:

تراهُ وَهْوَ متكئٌ عظيماً

وما كل الملوك تُرَى عظاما

   نجد فيه ثقلاً وزنياً (الضمة على تراهُ) وكلمة (وهو متكئٌ).. ولو استبدلناها بـ:

تراهُ على اتكاءته عظيم

وما كل الملوك تُرَى عظاما

   خامساً: في البيت الثالث والعشرين يقول:

توشح ضوء رؤيته حساماً

وصوَّب من كنانته سهاما

   فالحسام، والسهام ثنائيتان متضادتان، والجميل أن تكون ثنائية اكتمال وتوافق مثل:

توشح ضوء رؤيته حساماً

وجرَّد بعد رؤيته حساما

   سادساً: وفي البيت الأخير يقول:

أيا وطني فرشت لك المرايا

بساطاً أخضراً حتى تناما

   لعل الوطن لا (ينام) ولا (يسترخي) فهذه صفة لا تليق بوطن يتنامى ويتطور ويتجدد!! ولو قلنا:

أيا وطني فرشت لك المطايا

بساطاً أبيضاً يجلو الظلاما

*   *    *

(5) وختاماً فنحن أمام نصٍّ/ قصيدة فيها من الجمال والإبداع ما يخلق في ذاكرة القارئ والسامع والمتلقي مزيداً من الوطنية والانتماء والتعامل الإيجابي مع المتطلبات الوطنية التي يتباهى بها أبناء الوطن من الماء إلى الماء.

   وهذا هو دور الشعر والشعراء في القصائد والنصوص الوطنية التي تجسد روح الولاء والانتماء لهذا الوطن العظيم.

والحمد لله رب العالمين.

 

جدة: مساء الاثنين 10/5/1447هـ

مقالات سابقة للكاتب

تعليق واحد على “الوطن.. والثنائيات الشعرية!!

إبراهيم عمر صعابي

قراءة رائعة لناقد كبير يعطي النصوص حقها من التأمل والدراسة والاهتمام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *