في زحام الحياة، قد تأتي الحكمة من أماكن لا نتوقعها، وقد ينفتح لنا باب البصيرة من مشهد بسيط عابر، كأن الله يرسل إلينا رسائل لطيفة عبر تفاصيل صغيرة توقظ في داخلنا أعمق معاني الطمأنينة والتأمل.
أحياناً كل ما نحتاجه لنعرف أين نقف وإلى أين نسير، ليس أكثر من نسيم صباح هادئ وسماء شتوية صافية وسرب حمام يطير بتناغم يشبه معزوفة من صنع الخالق. ومن هذه اللحظة الهادئة وُلد هذا المقال للوجود ؛ لحظة اجتمعت فيها السماء الصافية والروح والحكمة لتروي لنا درسًا خفيًا عن الحب والأسرة والبركة والاتساق الذي يمنح الحياة جمالها.
بعد شروق شمس رقيقة من شمس الشتاء هذا اليوم،كنتُ ممدّدًا على أريكة في باحة منزل أخي، أراقب زرقة السماء التي تشبه صفحة ماء صافية لا يعكّرها شيء. كان نسيم الصباح يلامس وجهي برفق يشبه لمسة أم توقظ طفلها على حب جديد للحياة.
وفي تلك اللحظة الشفافة، وجدت نفسي أغوص في أسئلة الوجود: ماذا قدمت؟ وإلى أين وصلت؟ وهل أنا على الطريق الذي أراده الله لي أم ما زلت أبحث عن ملامح الطريق؟ وبينما كنت غارقًا في هذا التأمل الهادئ، خطف بصري سرب من الحمام يشق السماء بحركة دائرية بديعة كأنها رقصة محسوبة بإتقان لا يخطئ فيها أبداً . يختفون خلف سقف المنزل ثم يعودون بانسجام أخّاذ يكمّلون دورانهم كأنهم يرسمون على صفحة السماء لوحة عن الحب والتناسق والجمال.
تساءلت: ما الذي يجمع هذه الطيور الصغيرة في هذا العرض السماوي الفاتن؟ أهي الفطرة وحدها؟ أم الحب؟ أم روح الفريق والعمل الجماعي؟ ولماذا لا تطير كل حمامة وحدها؟ ما الحاجة إلى هذا الانسجام المحكم الذي يشبه قطعة موسيقية تعزف بإتقان في الهواء؟ كنت أنظر إليهم وكأنهم يريدون أن يهمسوا لي برسالة خفية مفادها” أنه لا شيء يجمع القلوب ويقوي الأجنحة مثل الحب”.

فالحمام لا يمارس الطيران فحسب، بل يمارس الانتماء والألفة والقوة التي لا تنشأ إلا حين تتشابك الأرواح قبل الأجنحة. ومن خلال هذا الطيران الجماعي، فإنه يذكر الرائي المتأمل بأن الوحدة ضعف وأن الجماعة سند وأن الرفقة تزيدك ثباتًا وارتفاعًا.
وعند هذه اللحظة، قفزت إلى ذهني صورة عائلتي الحبيبة؛ كم نشبه هذا السرب كثيرًا. نحن أيضًا نطير معًا بقلوب متآلفة وبروح واحدة وتحت ظل والدين كريمين جمعا شتاتنا بالرحمة وربّونا على الحب قبل الخبز وعلى الاحترام قبل الكلام.
سألت نفسي: كيف استطاعت أسرة كبيرة ممتدة، فيها رجال وبنات وأجيال مختلفة، أن تبقى على هذا القدر من الود والألفة والدفء؟ وكان الجواب واضحًا كصفاء تلك السماء: بركة الوالدين ودعواتهما وصبرهما وتضحيتهما وتلك القلوب العظيمة التي بذلت كل غال ورخيص كي نحيا اليوم بعز وطمأنينة وكي تكون أحلامنا أعلى من سقف الغيوم .
لقد زرعا فينا الحب لبعضنا البعض وبثّا في أرواحنا روح الأمل وعشق التحدي وعدم الاستسلام، وربّيانا على أن يكون خيارنا الأول والأخير هو رضا الخالق والسعي إليه في كل الأحيان.
وحين أعدت النظر إلى سرب الحمام وهو يبتعد في الأفق، أدركت حقيقة كبرى: أن الحياة مهما اتّسعت، والطرق مهما تشابكت، يبقى الحب هو الطريق الوحيد الذي لا يضل سالكه، ويبقى الاجتماع هو القوة التي ترفعنا فوق كل تعب، ويبقى البر هو الجناح الذي لا ينكسر. فالأسر التي تجمعها الرحمة وتوحّدها القيم وتظلّلها دعوات الوالدين هي الأسر التي لا تهزمها الرياح ولا تفرّقها الأيام ولا تطفئ نورها الظروف مهما تأزّمت أو تعقّدت و عظُمت.
ولذلك تعلّمت من ذلك السرب درسًا كبيراً لن أنساه في حياتي ” أن أجمل ارتفاعاتنا ليست تلك التي نحققها وحدنا، بل تلك التي نصعدها مع من نحب سوياً تحت نظر والدين منحانا السماء قبل أن نتعلم الطيران “.
وهكذا، كما يرتفع الحمام في حلقات متناسقة نحو العلى، نرتفع نحن أيضًا بالود والبركة وبرّ الوالدين ووحدة القلوب، فما دام الحب يجمعنا… ورعاية الله وعنايته تحوطنا فلا خوف على أجنحتنا الفتية من الطيران أبدًا في سماء أفق الحياة الممتد الواسع.
نوار بن دهري
NawarDehri@gmail.com
مقالات سابقة للكاتب