الجاني و الضحية !

في عام 1380 هـ نادى منادٍ  بصوت مسموع ملأ جنبات الوادي، أعلن آنذاك ميلاداً جديداً لفتاة ليس لها من قبل سمياً بمحافظتنا ، فتعجب منها الناس وبدأت غريبة ، فنشأت تلك الفتاة في ظروف صعبة للغاية، فلا السكن متوفر لها ولا الطرقات ممهدة، ولا نخفيكم سراً أن هناك من القوم من يهمس بصوت خافت لماذا هذه الفتاة بيننا ؟!

ويتمتم بهمسات غاضبة: لانريدها بين أبنائنا ليتها لم تأتِ !! تمتمات وهمسات بين الخفاء والجهر ، لكن من جاء بالفتاة هو أيضاً يتمتم: ” إن بعض قومي لايعلمون فصبر جميل، والوقت كفيل باقتناع الجميع بهذه الفتاة وتواجدها بيننا ” ، ولم يكذب حدسه وكان صدقاً ماظن ، فما هي إلا شهور حتى أتت الوفود للفتاة فراداً وجماعات طالبة القرب منها وهي ترحب بالجميع وتفتح الدار لهم ، وكل مازاد الطلب وتقادمت السنون توسعت في حجراتها لتستوعب كل من أتى إليها، وبدأت مرحلة جديدة وشمس تشرق ونور يشع بكل أطراف الوادي وهي لا تمل ولا تتوقف عن ندائها السرمدي: اقرأ .. اقرأ .. فيوماً ما سترقى.

ومع مضي الوقت جاءت لها أخت أخرى غير أنها سكنت بطرف الوادي الجنوبي ولم تمكث إلا بضعة أعوام حتى أتت أختها الوسطى ثم تلتها أختها الكبرى؛ غير أن كل منهما آثرت السكن بعيداً عن الأخرى ومع دورة الأيام اجتمعت الأخت الأولى والثانية مع بعضهما بدار واحدة،  والأخت الوسطى والكبرى بدار واحدة ، وبدأت مسيرة انطلاق وإنجاب الأبناء الأفذاذ ونشأ في أحضانهن جيل من الأبطال وتخرج على أيديهن شباب هم فخر للوادي.

كان لايمر عام إلا وموهوبون من أبنائهم يتقدمون الواجهة الإعلامية ، غير أنه مع تقادم الأيام والأجيال وتعاقب الأعوام تدهور منزل الأختين الأوليين وبدأت دارهما تتساقط أركانها وتتصدع جدرانها وأصبح لزاماً مفارقتها وإخلاؤها ، وصدر قرار الحاكم بترميمها وتأهيلها ، لكن إلى من ياترى ستلجأ الفتاتين وتسكن خلال فترة الترميم! ، لم يكن هناك سوى منزل الأختين الوسطى والكبرى ، فانتقلا هناك لفترة قصيرة واتفقا على أن تكون عاماً واحداً لاغير … لكن حدث مالم يكن مخطط له ، فتعثر البناء وتوقف العمل واختلف الحاكم مع الباني ومرت سنة ولحقتها أخرى ثم أخرى وتذمرت الأختان المستضيفتان من الوضع ، فالمكان ضيق والدار لم تعد تحتمل وتزاحم الأبناء بالممرات وحدثت الاحتكاكات والاشتباكات وضاقت الأرض عليهم بما رحبت وزاد الطين بلة كما يقال.

تجاهل صاحب القرار صوت طلب الاستغاثة من الأبناء ، وأمام وضع سيئ لايحتمل وبيئة غير جيدة لا تتوفر فيها مقومات التربية ولا التعليم الجيد ، آثر ثلاثة من القادة الأبطال على الفور التنحي عن مناصب قيادية بالمنزل ، فكانت خسارة فادحة وجناية سيدفع ثمنها الأبناء لعشرات السنين ، إذ أن البيئة التي هم فيها الآن ليست صالحة للعملية التربوية ولا التعليمية في ظل فقدان مقومات وخدمات وبرامج وأنشطة وغيرها مما يحتاجه أي منزل يسعى أهله لبناء الإنسان ، فمع هذا الزحام وذاك الضيق وفقدان الأماكن واختلاط الصغار بالكبار ومع صعوبة التربية والتعليم ، سوف ينشأ جيل بأكمله فاقداً الكثير من المهارات ، والكارثة الكبرى التي سيتفاجأ بها الكل أنهم لن يشاهدوا أي متفوق خلال السنوات القادمة ولن يكون هناك أي تميز في هذه الأسر وسيكثر هروب الأبناء وتسربهم من المنزل والطامة الأشد ألماً هي أن بيت الأخت الوسطى والكبرى هما الآخران أخذا يتهاويان وكل المؤشرات تدل على أنهما بحاجة إلى ترميم فيا أمان الخائفين والمشردين أين المفر وأين الملتجأ ؟

وأصبحت الأخوات الأربع يضربن كفا بكف ويلطمن ويندبن من الجاني الذي حاصر الطموح وحطم آمال الأبناء وقضى على همم القادة وزج بالأسر في هذا المعترك الخاطئ وأنهى آمال وطموحات جيل بأكمله ! وتراجع بالحياة وعطل عقولاً أن تتفوق وأسكت أقلاماً من الإبحار في مجالاتها المعرفية والعلمية.

من المسؤول عن الضحية الفكرية والعقلية الذي ساعد قراره ذاك بالدمج والجمع بين الأخوات إلى وأدهن والقضاء على طموح أجيال متعاقبة؟! .. ومن المنقذ اليوم ؟!

واليوم قبل غد فإن كل عام يمر يعني خسارة جيل جديد بأكمله ، فإن من شب على شيء شاب عليه ولا يصلح العطار ما أفسد الدهر ، وليت شعري هل سيصلح الدهر العلاقة بين الأخوات الأربع ! بعد ما أفسدها القرار الخاطئ ، وليت شعري ثم ليت شعري هل ستبقى الفتاة الأولى على قيد الحياة حتى ترجع بيتها وتنعم بتربية أبنائها تنشئ جيلاً جديداً وترأب الصدع مع أختيها ؟! .. لنرقب ما ستأتي به الأيام القادمة لفتاة عمرها قارب الستين عاماً من يوم أن أسماها أبوها مدرسة ” موسى بن نصير ” .

 

أحمد عناية الله الصحفي

مقالات سابقة للكاتب

10 تعليق على “الجاني و الضحية !

ابراهيم يحيى ابو ليلى

حقيقة استاذ احمد اسلوب غاية في الروعة يشد القارئ ويحفزه لإنهاء المقال بتلهف وهو يفكر مع تتابع الاسطر يا هل ترى من هي هذه الفتاة ثم من هن اخواتها وما قصتهن ويتابع القارئ المقال بنهم اكثر ويدفعه الفضول لأن يصل الى نهاية القصة الجميلة اسلوب قصصي جميل يصل الى موضوع غاية في الاهمية نعم انه التعليم الذي يرفع الله به من اراد التعلم وفي النهاية نرى ان القصة تختتم بهذا الصرح التعليمي الكبير الذي تخرج منه اساتذة عمالقة في هذه المحافظة نعم انها مدرسة موسى بن نصير …. اذا ليت هذه الاصوات المرتفعة بالشعر تارة والنثر اخرى طالبة الرأفة بهذه الضحية التي طالما احتضنت ابنائها بكل حنان ورأفة كالأم الحنون الرؤوم … تحياتي لقلمك المبدع ولطرحك المميز لا عدمناك اخي الاستاذ احمد الصحفي كل الشكر لك ولصحيفة غران الرائدة .

عبدالمحسن

مقال اكثر من رائع …….
هؤلاء أبناءنا يجب أن نقدم وان نسعى من اجلهم

شكرا للأستاذ أحمد عناية الله الصحفي على هذا الطرح

د / محمد سانغو

ماشالله .. ??❤
على موضوعك الحساس .. ومثير الاحساس .. !!
( الجاني والضحية )

وبعد قراءتي .. ان في الجيل قادة .. يضعون مبضع الجرااااااح على الجرح .. بكل احتراااافية .. في التصوير .. ودقة في التعبير ..

فلا فض فوووك .. ولا شلت يمنااااك ..!! ( مع اني متاكد ان التي كتبت هي اليسرى ..!!! ?)

لكنك ..!! أسهبت .. ف أبدعت ..
وجسدت .. ف أبرعت .. !!

وبعد قراءتي .. بدر الى ذهني هذا العنوان .. العفوي ..( القاتل والمقتول )

ف سر على بركة الله .. ايها القائد .. لتستلهم الاجيال من ينابيع الحكمة لديكم ..

مع تحيات ابي حسان
قلمي يحيك سيدي ..?

ابو عبد العزيز

دائماً متألق ابا عبد الله بداية قراءتي احترت
في هذه القصة وتابعت القرأة بشغف
لأتمكن من معرفة من الجاني ومن الضحية
حقيقة اول مرة اقرأ موضوع لآخرة . قصة
شيقة من يد معلم حبكها لتصبح طبخة
ناضجة .. بارك الله في فكرك وقلمك الذي
لا نستغرب منه المفاجآت .. والى مزيد من
أفكارك الجميلة

فيصل القريقري

اخي المبدع الاستاذ احمد
لقد ابدعت ايما ابداع في رسم الصورة القاتمه وجسدت المعاناة بقلم اخاذ واسلوب شيق مشبع بفخامة الاداء وقرأة الواقع
قرأتها مرة واكاد اجزم انها عالقة في ذهني لم يكن ذلك لاواصر الرفاقه او لعاطفة الصداقه ولكن لقوة الكلمة ولا اقول ذلك مجاملة او تزلفا بقدر ماهي الحقيقة التي فرضت نفسها واصبحت واقعا ملموس
فالنفس البشريه مجبولة على حب الابداع وسحر البيان وهنا اجتمع الحرف الرفيع بالافق الوسيع فكنت شامخا كالطود المنيع
فلله درك اخي ولله در ام انجبتك ولله در قبيلة عزيزة منيعة احتضنتك

مفلح الصاطي

أستاذ أحمد / لم يكن قلمك سوى مشرط آلم ولكنه وضع يده على جرح مازال نازفا في جسد
محبوبتكم ، صغت المشكلة بطريقة احترافية أجبرتنا على قراءة فصول المأساة التي يعيشها طلاب
تحكم في مستقبلهم ورسم طريقهم أناس ربما لم يعيروا اهتماما بحاجاتهم النفسية والتربوية

أنا شاهد على هذه المعاناة ويضيق الصدر كلما توجهنا إليها و يضيق أكثر عند الخروج منها

كان الله في عونكم

أحمد مهنا

تدون ذكريات أم تسجل تاريخا؟!
أحسنت مقالا وأتقنت وصفا، ولقد خلت المثلات وقيلت الحكم ، وتظل الآمال نورا في دياجي الظلم، ويطل التفاؤل حافزا ويسطر القلم،
يحتاج الامر لرشيد يدعمه صف ، ليقتفي الأثر وليرسم من حيث انتهى طريق الوصول لجديد ولا يصر على مالا يكون ويحتال سيرا على دروب النظم ويحذر من هوة ماسلمت منها فكر وأوقعت من العمر في سني الدهر ، لايهتم لترقيع فقد بلي المرقع والرقع، ولينظر حسب جديد الرؤى ليرضي الفتاة ، إن لم ينصفها ، فإني اخاف عليها الهرم .

عبدالرحيم الصبحي ـ أبو أوس

ما تعرضت له الفتاة نتيجة فساد مجتمعي ومسؤول ليس أهلا لمكانه الذي وضع فيه ولكن يظل لكل فتاة رب لا يقبل الظلم ولي أمر صاحب القرار مسؤول عن اتخاذ القرار الصحيح فهل خطب المتقدمون لها الباب الصحيح .
متى ابتعدت عن الطريق الصحيح لن تجد ضالتك ومهما طرقت الأبواب الخاطئة لن تجد حلا يرضيك وليس هنا إلا أن تجد حلولا أخرى بعيدة عن أختها والعمل
‏مــا أَصــعِــب أَن تــصـرخ لــتـنــادي مـن تـحب لــكنــك لآ تسـمــع سـوى صــدى آهــات قــلبـك

خالد المرامحي

حقائق مؤلمة أبدع الاستاذ القدير والكاتب المميز الأستاذ أحمد أبا عبدالله في تجسيدها التجسيد الأمثل
والتصوير الدقيق ليخاطب العقول ويناشد المسؤول وليت حرفه يصل ليعيروا الاهتمام وتوضع الحلول

محمد الرايقي

سرد قصصي رائع صور لنا المعاناة بصورة أروع
لاتملك أمام هذه اللغة الراقية إلا الوقوف احتراما وتقديرا
بمثل هذه المقالات نتعلم ونستفيد ونستزيد معرفة
الف شكر لك أستاذ أحمد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *