عندما أنتهي من كتابة أي مقال , أجده يبدأ غامضاً وينتهي حالماً , تارة أقول بأن المقال يمثلني , وتارة أقول بأني لا أعرفني , هل أنا أنا ؟!
أظن بل أجزم بأن من يتحكم بخاصية الكتابة لدى الانسان هو العقل الباطن , وها أنا عندما بدأت تمكن داء الحنين إلى الماضي ( النوستاليجا ) مني , ورحلنا إلى الماضي سوياً , طفنا شتى البلدان ومختلف الحضارات , لم يستوقفني منها سوى الفقر الذي كان يعيشه آباؤنا , والذي قال عنه عمر رضي الله عنه ( لو كان الفقر رجلا لقتلته ) , إلا إنهم كانوا عزيزي الأنفس قانعين بالقدر متفائلين بالمطر , بحثت فلم أجد لذلك الفقر العفيف تعريفاً يرويني أو عن التفكير فيه يثنيني , فقررت أن أعرفه بنفسي :
” الفقر ” هو تنهيدة الرضا , والوجه الأبيض للعنا .
” الفقر ” هو لجوء إلى المنفى , وفرح بلا مرسى .
أحببت الفقر بسببهم فقررت أن أعيشه , لعلني أحاكي بريقهم , وقبل أن أخوض التجربة أردت أن أقنع نفسي فتمعنت في حال الأغنياء ( الطبقة المخملية ) وتحسست أحوالهم , فوجدت أن معظمهم يعزفون الفرح نشازاً بلا مقام , وأن أتقنوا عزف الفرح فإن من يشاركهم العزف ثلة من المتملقين الأشقياء المعروفين بسوءهم , يا ترى أي فرح هذا !؟
بل إنهم محسودون حتى في عزائهم لأن نصيبهم زاد بالتالي ابتلاءهم زاد , وإن أبتلي أحدهم بمرض سريري لايرجى شفاؤه , يؤمن لنفسه أو لمن يحب أجهزة تنعش قلبه فقط عشرات السنين , طوال هذه الفترة تتسمر عينا ذلك الغني أمام تلك التموجات الخضراء , يسامر الشقاء .
بل إن الأغنياء لا يحلمون لأنهم يملكون كل شيء من أي شيء , ” والحياة من دون حلم , صلاة من غير وضوء ” ,
يا ترى أي حياة هذه !
يقول أحمد شوقي : ( الغنى ظل زائل ) .
أيها الأغنياء أنتم كالورود ولكن للأسف ورود فقدت عبيرها بلا رائحة , السعادة بالنسبة لكم كومة قش تود النفاذ من ثقب إبرة , الغنى بين قوسين هو ( ذنب طاهر ) .
فلنتخلص جميعنا من هذا الذنب الطاهر , ولنمتطي ذلك الفرس العربي الأصيل ( الفقر ) , ذو الجبهة العريضة والغرة البيضاء ( الصدق ) , ومنخاران واسعان ( الصبر ) يساعدانه على الركض بلا تعب , وصدر ضخم وجسم متناسق ( مسرج بالقناعة ) , طريقه للنصر محتوم .
للفقر فوائد لم ولن نسمع بمثلها أبداً , وهي :
الفقر يصنع منا ملحدين بكل عادات البذخ المرفوضة دينياً , لذلك نحن أول الملحدين الصادقين .
يستوجب علينا التلذذ بالفقر فهو شغف وشرف لا يناله الجميع , فمشاغلنا المحدودة منحتنا الوقت الكافي لصلة أرحامنا بالتالي تزداد أعمارنا .
بل إن الفقير يموت مطمئناً , فهو لا يملك أموالاً تشتت أبناءه بعد رحيله .
إن كنت فقيراً تستطيع أن تحلم , بالتالي هنالك فجر قادم ، وابتهالات باسمة .
في الفقر لا يوجد هدايا زائفة ومقارنات , في الفقر نطوق من نحب بطلاسم عشق صادقة لا يحلها سوى الموت .
الفقر جنة المرأة , لأن الزوج ليست لديه القدرة على الزواج من غيرها , بالتالي ضمنت جنتي الدنيا والآخرة إن أحسنت لهما .
يا ترى , هل هناك من يشكك في روعة وأناقة الفقر؟!
فليحكم أمرنا للدين , نحن الفقراء نسلك منهج الأنبياء ونشابههم في هذا الجانب فنحن إذا متنا لا نورث شيئاً ,
وهم كذلك : قال عليه الصلاة والسلام (( إنا معاشر الأنبياء لا نورث )) .
بل إن الفقير يسبق الغني في دخول الجنة بخمسمائة عام إن تساوت أعمالهم , فالغني يؤخذ منه ماله كله , ويسأل عنه كله ,
أما الفقير ليس لديه مال يسأل عنه , قال الرسول عليه السلام ( يدخل فقراء أمتي الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم , وهو خمسمائة عام ) ..
يا ترى , هل أحببتم الفقر؟!
إذا فلنصبح فقراء لننال غنى الأنفس مع من سبقونا, ولكن لابد من تنفيذ ما قاله عمر المختار :
( كن عزيزاً وإياك أن تنحني مهما كان الأمر ضرورياً , فربما لا تأتيك الفرصة كي ترفع رأسك مرة أخرى ) .
أخيراً : إن أصبحنا فقراء حقا ، فهنيئاً لأرجوحة الفرح بنا .
مشهور عبدالعزيز الصحفي
مقالات سابقة للكاتب