لاتزال صرخة النذير بأذني يتردد صداها إلى هذه اللحظة ” أيها الناس حطت برحالكم وقرب مساكنكم كارثة لها مخرجات ضارة على البيئة طاردة للحياة البشرية قاتلة للنمو العمراني ” .. إنها مدينة غران اللوجستية للصناعات الخفيفة والمستودعات على مساحة إجمالية تبلغ 5 مليون مترا مربعا، وقد تم الترخيص لها في سرية تامة وصاحبها يستعد للبدء بأعمال البنية التحتية، خبر كالصاعقة وقع على أهالي غران خاصة والمحافظة عامة، وعلى الفور عُقِد اجتماع طارئ لمشايخ وأعيان غران وشُكِّل على إثره فريق عمل تكون من رئاسة وقيادة ولجنة، ووضعت الخطط ورُسمت الأهداف ودُرس المشروع دراسة علمية حديثة وافية واستُعين بذوي الخبرات والاختصاصات وبالمكاتب الهندسية حتى إذا ما اتضحت الصورة وانكشف ضرره واقتنع الجميع بذلك انطلقت الفرق واللجان تجوب الجهات المعنية وذات الاختصاص تبين وتشرح وتطالب بإلغاء الترخيص.
وبما أنني أحد من كان له شرف العمل في ذلك فقد كنت قريباً من الأحداث أدون بقلمي كإعلامي وبيدي الأخرى أرسم مع الفريق خططاً ممنهجة ومدروسة للتصدي لهذه الكارثة.
والحق يُقال : إن التوصيات تطالب بعدم المساس بالأخوة أصحاب المشروع أو وكلائهم بأي شكل من الأشكال، بل نوجه احتجاجنا وردة فعلنا للفعل ذاته لا غير، وقد تم أخذ عهد موثق على ذلك، وطيلة ثلاثة أعوام كان فريق العمل يكابد العناء ويواصل الليل بالنهار وينطلق في زيارات متتابعة ما بين جدة ومكة والرياض؛ صادفنا فيها ساعة فرح ، وساعة ضنك وشدة ، وفرحنا ساعات ، واشتد الكرب علينا ليالٍ وأياماً ، لم نترك باباً إلا وطرقناه ، وكان أول باب هو باب علّام الغيوب.
ويمضي العام الأول ونسعد بوعد من أمين جدة بإلغاء القرار، ولكن هيهات لم يدم طويلاً حتى تبدل الأمر وعدنا من حيث انتهينا وانتهى العام الثاني ونحن بين كر وفر وصعب علينا الأمر وتكاثرت علينا الظباء من كل جانب وأتتنا السهام والرمي بالنبال من كل حدب وصوب، واشتد الحوار والنقاش وكثرت الآراء ورأيت فريق العمل وقد تأزمت لديه الأمور وجاءت علينا لحظات بتنا فيها حيارى: أي الطرق نسلك ومن أي الأبواب نلج؟!
ومع بداية العام الثالث ظهرت ملامح خطيرة وتوجُّه جديد للمستثمر وخاصة بعد أن أقنع بعض الجهات بتعديلات جوهرية أحدثها بمشروعه ، هنا كان لا بد من البدء بالمرحلة الثانية من الخطة وتم التعاقد مع محامٍ والتوجه إلى ديوان المظالم، وزاد الأمر حدة بين أعضاء الفريق ولربما خرج بعضنا من قاعة الاجتماع صامتاً لا يعقب ، ولا تكاد تسمع من الجميع سوى صوت أنفاس مختنقة بات ليلها وقد بلغت القلوب الحناجر وكأنك تسمع صوت أحدهم: متى نصر الله؟! ، ولا تلبث إلا أن تسمع صوت أخيه : ” ألا إن نصر الله قريب “، وتأتي في ساعة متأخرة من ليل رسالة من القيادة هادئة مطمئنة : والله لن تضاموا في عهد سلمان الحزم ، ينام بعدها الفريق حتى إذا ما أتى الصبح واصل كره وفره بلا كلل ولا ملل ، غير أن وقت تحريك فريق الشباب قد حان وهنا انطلق وسم ” أهالي خليص يرفضون الكارثة “! .. لم يكن هذا الوسم عادياً بل لم أعرف له سمياً !، واستطاع في بضع سويعات كسر حاجز الثلاثة آلاف تغريدة والخروج لأول مرة بالترند ، وتقف من أمامه وخلفه صحيفة غران التي مافتئت تآزره وتؤيده ، وبقي الوسم بالترند إثني عشر يوماً مسجلاً سابقة لم تكن من قبل ، تفاعلت على ضوئه وزارة الشؤون البلدية وإمارة مكة المكرمة وأمانة جدة وأُصدرت بيانات فورية وسريعة تمثلت في تكوين خمس لجان مختلفة وذات علاقة للإفادة عن مرئياتهم حيال مدينة غران اللوجستية، وكأن ساعة الصفر قد حانت وساعة الحسم اقتربت وشمس الحقيقة لا بد أن تشرق! ، ولكن عن ماذا سيكشف ضوئها؟! ، وهنا مع اقتراب صدور القرار توحَّد أبناء محافظة خليص بموقف واحد رافض للمشروع جملة وتفصيلاً ، وكان للمجلس البلدي بدوره موقفاً مشرفاً ذا مسؤولية ، وتوافدت الوفود تترى نحو المسؤولين وتزاحموا على الأبواب وعاد الاحتراق مع الاختناق واستمر بقوة جناح الشباب وعانق وسمهم الترند سبعين يوماً مسجلين سبقاً لم ولن يحدث ويتكرر قريباً.
وفي ساعة كان الفريق في كرب وشدة لاطلاعه على تحركات هنا وهناك ليست في صالح الأهالي، إلا وساعة الفرج تدق أجراسها وتطلق بشائرها نحو محافظتنا وشمس العدل تشرق للحق، ويصدر من معالي وزير البلدية والقروية قراراً يقضي بإلغاء مدينة غران اللوجستية وإعادة تخطيطها بعيداً عن الصناعات والمستودعات، كان الخبر كالغمام حين هطوله وكالنسيم اللطيف حين هبوبه وكانبلاج الفجر وانشقاق القمر، وما هي إلا لحظات وإذا القيادة المناطقية بمكة تصدع بأمر الإلغاء، تبعها بعد ذلك بقية الصحف ووسائل الإعلام، وإن كانت الأسبقية والقيادة الإعلامية لصحيفة غران الإلكترونية ومن لها سواها؟! ، فهي من تولَّى منبرها مسؤولية الدفاع عن الحق وإبراز الفساد وكشفه ..
وهنا فرح أهالي خليص عامة وغران خاصة بهذا النصر المستحق الذي منع ضرراً بيِّنا ودفع ظلم ظاهر .. فشكراً لكل من وقف مع الحق ضد الباطل من أبناء المحافظة عامة وأهالي غران خاصة ، من مشايخ وأعيان ومسؤولين ، وشكراً لكل الأقلام الحرة ولمواقع التواصل الاجتماعي و” السوشيل ميديا ” والصحف الإلكترونية والورقية ، والشكر موصول للشخصيات الاعتبارية والرجال المتخصصين في الهندسة والبيئة..
شكراً .. مستشار خادم الحرمين الشريفين صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل .. وشكراً .. معالي وزير الشؤون البلدية والقروية الدكتور عبداللطيف آل الشيخ .. وشكراً .. معالي أمين جدة الدكتور هاني أبو راس .. والحمد لله من قبل ومن بعد، الحمد لله حتى يرضى والحمد لله بعد الرضا ، والحمد لله أننا نعيش بهذه الأرض الطيبة الطاهرة التي تحكم بالعدل والإنصاف في عهد سلمان الحزم والعزم.
أحمد عناية الله الصحفي
مقالات سابقة للكاتب