ما إن دار الخبر في كل دار حتى تهافتت ألسنة المجتمع ما بين معارض ومؤيد مابين وجهة نظرٍ وأخرى، ولكن في النهاية لايصح إلا الصحيح، ولن يكن إلا ما يجب أن يكون.
وكأنني أرى بعضًا منهم يصفق تمجيداً للقرار الصائب وتعزيزاً لكل فكرة ابداعية ولكل تنفيذ متقن ومتميز، وبين هذا الضجيج أغمضت عيني بعضاً من الوقت وأخذت مخيلتي تسترسل الذكريات.
في يومٍ ما كانت مدرستي متميزة تنتهج طريق كل المتميزين، وكانت قائدتنا ذات رؤية بعيدة المدى، وفي صبيحة يومٍ ما كنا نتجاذب أطراف الحديث حول إضافة أفكار تطويرية للخطة التشغيلة للعام القادم، وقد وجدنا فجوةٍ غريبة وهي مواجهه الملل المدرسي وقلة دافعية المتعلم نحو البيئة التعليمية، لُوحظ هذا بناء على استبيانات ودراسات ميدانية أفادت بمجملها أن الطالب قد يشعر بالملل نحو البيئة التعليمة، وخاصة في المراحل العمرية المتقدمة في المرحلتين المتوسطة والثانوية.
بعد أن تناقشنا حيال هذا المحور قُرر في نهاية الحوار بعض النقاط التي كانت محط اهتمام قائدتنا المبدعة يوماً ما، وحينها خطرت فكرة جميلة فكرة ابداعية -كانت فكرة بسيطة ومجردة وبفضل الله توالت الهمم في تطويرها- ألا وهي تكوين فريق ( إرشادي ـ بدني ـ لياقي) مكون من ١٦ عضوة، مابين معلمة وإدارية وطالبة، وكان برنامج من أروع البرامج التي شاركت بها، وكان لي نصيب الأسد فيه، وأفتخر وسأظل أفتخر ماحييت.
البرنامج الذي اختير له مسمى (برنامج الإرشاد الصحي واللياقة البدنية) نعم أليس هذا هو نفس المصطلح المتداول اليوم؟ صُمم على ثلاثة محاور مدروسة بشغف إبداعي بقيادة محنكة وتنفيذ متمكن، هنالك محور التغذية
واستخدمنا في ذلك المقصف المدرسي والإشراف على الأطمعة المقدمة من الناحية الصحية، وإضافة طبق الفواكة كعنصر أساسي في المبيعات، بالرغم من إغفال الجانب الربحي في ذلك الموضوع والاكتفاء فقط بما يحقق رأس المال تحديداً في تلك السلعة.
أيضاً كان ضمن الفريق وجود عدد من الطالبات ضمن هذا الفريق مما يعزز من أسلوب المحاكاة والبرمجة عن طريق الطالبات للطالبات، وحصلنا على صياغة لبعض الأفكار الصحية الصحيحة التي قد لا يُلقى لها بالاً في المجتمع المدرسي بالتحديد.
وكان للإرشاد الصحي محوراً أيضاً، وقد أُثريَ هذا الجانب بما يستحق، بل أكثر؛ فمحور اللياقة البدنية كان له نصيب الأسد من الفكرة، وقد تكللت “فسيولوجيك” الطالبات البدنية كل الاهتمام مع الحرص على مجابهة حماسهن بما يتناسب مع لياقتهن البدنية وشريحتهن العمرية.
والكثير الكثير من الخطط التي صُممت بعناية ونفذت بإتقان عاشق لتلك الخطط، كان برنامجًا جميلًا، والأجمل أنه حقق جملة من الأهداف في مرمى واحد، حيث أضحى وسيلة جاذبة للطالبات لكسر الروتين المدرسي الذي ساهم في تماثلهن للحضور المبكر واللحاق بركب التدريبات الصباحية بكل حماس ونشاط ورغبة، كما حقق هدف تربوي وجسمي وعقلي، وأصبح هناك فئة كبيرة من الطالبات تهتم بحضور التدريبات البدنية التي كانت تقام بين الفينه والأخرى في الطابور الصباحي، إضافة إلى استغلال حصص الاحتياط بالساحة الخارجية في التدريبات التي يسبقها تمارين الإحماء، كما لايخلو البرنامج من سجلات تنظيمية للمتابعة، بالإضافة إلى الحلقات الأسبوعية التي كانت تستخدم فيها حصص النشاط في متابعة الطالبات الراغبات في إنقاص الوزن.
ذكريات جميلة حقاً، ذكريات أصبحت اليوم في طيات النسيان، وليدة لم ترَ النور، وأي نور بصيص أمل مات قبل أن ينهض ويستيقظ للعالم، وكأني أرى علامات الاستفهام تحوم حول البعض، حسناً وماذا بعد؟
بكل أسف تعالت الأصوات وشقت الصحف وانتهت الرواية قبل أن تنتهي، وكأنني أرى صغيرتي الموؤودة (برنامجي) تتساءل بصوت خفي: بأي ذنبٍ قُتلت؟
كان لدي كم هائل من الإجابات، ولكن للأسف لم يطرح (سؤال واحد) حول هذة التجربة؛ ماهي؟ كيف؟ لماذا؟ ما الآلية؟ وما هي النتائج؟ وافعل ولا تفعل، فقط تم إيقافي إلى وقت غير منتهٍ، وما زالت في جعبتي الحكاية.
الآن بعد أن قرأت الخبر ما كان من ذاكرتي إلا أن رددت كلمات الشاعر بصوت شجي:
جيت ابحكي وما حكيت وما مدى إنت مشيت
وما التفت، وأنا من سابع سما الأحلام طحت
إلى أن تسلخت تلك الأشجان، لملمت أشتاتي، ومزقت أوراقي ونثرتها أدراج الرياح، وكأنما تنثر رائعة من روائع نجيب محفوظ في أعماق النيل، فلينسى الجميع، وتبقى ذكرى الجميل المؤلم تؤرق مضجعي كلها هبت رياح وحركتها الأشجان وعصفت بي.
ليلى عبد المحسن الشيخ
مقالات سابقة للكاتب