عرضاً وقفت مع شخص غير سعودي أمضى في بلدنا – أدام الله عزه ورخاءه – ثلاثين عاماً ، وتحدث معي عن أناس عاش معهم عاملاً أو جاراً أو في أقل الحالات صديقاً ، وكم أسعدني انطباعه الجميل عن حسن تعامل أهل ديارنا وطيب خلقهم معه! ، وكان أكثر حديثه قصصاً عاشها أو أخباراً شهدها أو يرويها عن أصحابها مباشرة بلا قلقلة أوعنعنة.
أنقل لكم بعضها فهي تجمع بين الجمال والاعتبار ، يقول راوياً عن شخص أعرفه وذكر أسماء بعض أقاربه وبعض أحواله التي أعرفها أنا عن صاحب القصة ولا يعرفها هو إلا نقلاً ، مما كان مؤكداً لي ثبات روايته عن ذلك الشخص ، وقد قال على لسانه: ( كنت يتيماً فقيراً وكنت أكبر أخوتي الذين يشكل البنات فيهم العدد الأكثر وأمي المسكينة لا قريب لها حولنا ، والجيران إن لم يكونوا مثلنا فهم أبأس حالاً بسبب الفقر الذي لايفتأ مخيماً علينا جميعاً ، أدرس في الصباح وأعمل في المساء ، أي عمل كان ، وأقبل بأي مستوى من زهادة الأجرة ولو كان بحفنة من حب ، وحدث أن عملت مع رجل في قرية مجاورة أتحمل عناء الذهاب والعودة ولمدة أربعة أشهر لم يعطني شيئاً نهائياً ، وأنا صابر منتظر، وكم عشنا أنا وأخوتي فاقة من جوع أو عري أثناء هذه الفترة ، حتى إذ مسنا الحال وقد كان مسيساً ، ولا مسعف ولو بحبات تمر ، عشنا ذلك اليوم البارد بليلته وقد طوانا الجوع طياً ولم ننم ليلتنا ، أصبحت مع انشقاق الفجر وقبل موعد المدرسة عند بيت صاحب العمل الذي لي عنده أجرة أربعة أشهر ، وانتظرته عند باب بيته ، ولما خرج وأخبرته بالحال وطلبت منه شيئاً من أجرتي … نهرني شديداً وقال ليس الآن وغادرني واقفاً ، فما ملكت نفسي ، وكنت أحسبني رجلاً أتحمل المصاعب وأتجاوز المواقف ، وإن كنت لم أزل طفلاً ، فبكيت بحرقة حتى تناشجت وظهر صوت بكائي وشهيقي مابين جوع يعصرني وقدتركته يعصر أمي وأخوتي ، واحتراق مما قابلني به ولست إلا طالباً حقي ، فخرجت على الصوت زوجته وسألتني فأخبرتها ، فأخذتني بيدي وأدخلتني البيت والتفتت تجاه زاوية منه وأتت بمفتاح ثم فتحت مخزناً في فنائه فيه تمر وحب وخيرات وافرة ، قالت خذ من التمر من الأكياس التي تستطيع حملها ، فحملت ما أثقلني وقالت أوصله لبيتكم ثم عد إلي بسرعة ، وعدت ثم حمّلتني مثله حباً ، وذهبت به، ولا أدري ماذا حدث لها من زوجها بسبب هذا التصرف، لكني أظن أنها ستدخل الجنة بسبب إحسانها ذاك لي ولأمي وأخوتي فقد كنا نوشك أن نموت) وهذا الرجل الذي يحكي عنه عاش بعد تلك الحال فترة من الرخاء وطيب الحال وفي مكانة اجتماعية قد اكتسبها مما يقدمه للمجتمع من عمل ، مما جعل الناس يترحمون عليه ويذكرونه بالخير والصلاح، ولا أظنه حكا هذه القصة من حياته – رحمه الله- إلا من باب ( وأما بنعمة ربك فحدث).
ثم ذكر لي عن ( كفيله) قصصاً ، إليكم واحدة منها ، يقول عنه شاهداً عليه:
يذهب في أوقات الصيف الشديد إلى مكان في وسط الجبال يأخذ معه بواقي أطعمة يجمعها ممن حوله إن وجد أو يشتري حباً ويأخذ معه ماء ويضع الطعام أو الحب مع الماء تحت شجرة فتجتمع الطيور عليه، حتى تعودته منه بشكل عجيب ، وصارت تنتظر حضوره يومياً ، حتى أنه يتحدث متعجباً ، ويقول : صرنا إذا اقتربنا المكان تظلل الطيور سيارتنا من كثرتها وهي تطير فوق السيارة فرحة بقدومها ، تستقبلها من مسافة ، وقد اطمأنت لنا ! فسبحان من يوفق ، وسبحانه هو الرزاق رزق (الكفيل) باب أجر وهداه إليه ، ورزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً .
ثم مما حكاه لي أن كفيله هذا إن شغله في أبسط شغل أغدق عليه العطاء ولا يقبل عملاً منه أبداً إلا بأجرته، وإذا لا عمل عنده ترك له فرصة البحث عن رزق ، ولم يكلفه طيلة هذه السنين دفع أية مصاريف تتعلق بمستنداته الرسمية .
قلت هكذا هم أهل ديارنا خلقاً وتعاملاً وبراً ، وإن حدث عكس ذلك فماهو إلا نشاز لا يذكر ، فهم يعاملون غيرهم بخلقهم دون النظر لخلق من يعاملهم ، قد وطنوا أنفسهم إن أحسن الناس أحسنوا وإن أساؤا اجتنبوا إساءتهم .
أحمد مهنا الصحفي
مقالات سابقة للكاتب