من الطبعي جدًا أن يخوض الإنسان ـ أي إنسان ـ بفكره بينه وبين نفسه فيما يسمع أو يرى، سواء كان مطلعًا على الوقائع وملمًا بقراءة معاني الأحداث أو منشغلا بهوامش الأمور وتتبع النكت والمضحكات، يخوض بفكره ويجول بنظره ثم يفتح جهازه أو غطاء قلمه (مثلي الآن) ويكتب ويرسل، فذلك طبيعي وهذا واقع صار سهلاً، فلم يصبح (الحبل على الغارب) حبلاً واحدًا، ولا الغارب غاربًا واحدًا؛ بل حبال وغوراب! لايزاحم أحد أحدًا.
والانتشار في السرعة كأني به ينافس الضوء وقد شابهه فعلاً، فالضوء في الفضاء والنشر ضوء في الأجهزة، بلمسة يعم الأمر كتيبة (قروب)، وهم بنفس السرعة إلى كتائب أخرى؛ جيوش النشر إما الجهالة تقودهم أو السذاجة تستفزهم، فينشرون شائعة أو فاحشة، أو كذب على خير البرية حذرهم منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقال عنه أنه من أفرى الفرية، أو كلام لا قيمة له شاغل للآخرين.
وتعجب مما تلمسه فيهم من ابتهاج وهم يشاركون به بكثرة، وكأنهم حريصون على الخير؛ مخلصون في نفع الناس وإيصال الخبر إليهم سريعًا، ويوقّع بعضهم (انشر تؤجر) ويصادف أحيانًا أن يجد أحدهم نفسه في حرج ولا مفر له من الاعتذار، ذلك لأنه أعطى الأمر للنشر (حوّل) فوجد أن غيره كان أشطر منه فسبقه!
وتذهب الحالة هذه بأصحابها مذهبًا يجعلك أحيانا (تكشر) كالضاحك وأنت لا تسيطر على ملامح ترتسم عليك بسبب ردة فعلك اللاإرادية من ذهول الاستغراب الذي لو تركت له المساحة لسبب لك دُوَارًا ثم غثيانًا يزيد الطين بلِّة؛ فهو لا يحسن كتابة، ولا يفصح لغة، يستخدم كلمات محرفة، وأخرى في غير معناها، ويكتبها إملائيًا خطأ، ويعلق على منشوره بثقة قاطعة، وأن عليك أن تسرع لتصحيح فهمك الذي ظلمك من سنين، وأن الصواب المؤكد هو ما جاءك به، وكأنه هدهد سليمان عليه السلام ﴿ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ﴾.
فياليت تكون هيئة أمر بمعروف ونهي عن منكر عصرية تقنية متخصصة تتابع مثل هؤلاء وتأخذ على أيديهم، حتى يأطروهم على الحق أطرًا، فيفسحون المجال لأولئك المفكرين والدعاة والمصلحين والأدباء والمثقفين وصادقي المخبرين ليسهموا في بناء إنسان هذه الحقبة، ويتيقنوا تماما أن سكوتهم من ذهب ولايتكلموا أبدًا، فلا فضة عندهم، ولا ينطبق عليهم هذا القول (إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب).
ولْيُعْطَوا واجبات للتعلم كما كان بعض المعلمين القدامى يأمر بها أن تكرر كتابتها عشر مرات، ويتم اختيار ما يكتبون نحو هذا الحديث الذي كرره صلى الله عليه وسلم في في خير القرون ثلاث مرات (رَحِمَ اللَّهُ امْرَءًا تَكَلَّمَ فَغَنِمَ، أَوْ سَكَتَ فَسَلِمَ)، وسأكون معهم في هذا النشاط مثلهم أكتب.
أحمد مهنا الصحفي
مقالات سابقة للكاتب