صعد الإمام مالك بن دينار ذات يوم المنبر خطيباً في الناس، فانفعلوا وتفاعلوا وبكوا وتباكوا ثم صلى بالناس والتفت يمنة ويسرة بحثاً عن مصحفه فلم يجده؛ فحدثهم عن عقوبة السرقة والمال الحرام فزاد بكاؤهم ونشيجهم فتعجب وقال: كلكم يبكي، فمن سرق المصحف؟!
تمور المجالس موراً بكل أنواع التنظير والأحاديث في أمور العامة والتي ما إن ينتهي نوع منها إلا وأتى يهرول شبيهه أو قرينه أو الذي لا صلة له به، في سباق محموم حول من يُنظّر أكثر وينتقد أشد، في مشهد بكائي متشائم، والكل يتهم الكل، دون أن يعي أنه جزء من المشكلة!
نظرة فاحصة لوسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي تؤكد ما ذهبت إليه آنفاً، فالكل أصبح ينتقد الكل وأصبح البعض يتقمص دور المسؤول المصلح ويبكي ويتباكى على مآلات حالنا في التعليم والرياضة والسياسة والإدارة والخدمات وكل تفاصيل حياتنا، وفجأةً أصبحنا مجتمعاً هلامياً هشاً لا يعي مصالحه!
نحن في وقت كثر فيه المتعالمون الذين يتكلمون في كل فن، حتى الفتوى الشرعية تجاسروا على اقتحام أسوارها المنيعة وتطاولوا على أربابها بلا علم ولا كتاب منير، ولم يحفظوا لصاحب علم منزلته ولا لصاحب جاه جاهه، فجمعوا حشفاً وسوء كيل.
مع إقرارنا بأهمية الإصلاح الهادف والنقد البناء الهاديء بعيداً عن التشنج وإلقاء الكلام على عواهنه ورمي التهم جزافاً، الجميع مع وسائل التواصل أصبح مُنظرّاً وناقداً بوعي ودون وعي في أحيان كثيرة، والهدف هو الظهور والشهرة ليس إلا (مع استثناءات قليلة للمخلصين أصحاب الكفاءة والأمانة).
إن لبعض الصحف (ورقية، إلكترونية)، دور سلبي جداً في هذا الشأن، فهي تبحث عن الإثارة وعداد الزيارات الذي يسيل لعاب المعلنين، لذا تعطي بعضاً من هذه النوعية الفرصة للتمدد على صفحاتها والإمساك بزمام الكلمة وإطلاقها كالرصاصة الطائشة تصيب المجتمع في مقتل وتهز ثوابته الشرعية والعرفية، وهذا مسلك خطير يجرؤ من خلاله أنصاف المتعلمين وبقايا عهود الأفكار الدخيلة على مجتمعنا، والظهور بمظهر المصلحين وأصحاب الرؤية تدليساً وتمويهاً لتمرير أفكار قد عفا عليها الزمن وتخطاها وعي المجتمع علماً ونضجاً.
بسبب هؤلاء توارى كثير من أصحاب التخصص والكفاءة والأمانة عن الساحة؛ بسبب تزاحم غير الأكفاء (علماً وسلوكاً) وتصدرهم لكل شيء ساكناً كان أو متحركاً، وأصبح الجو ملوثاً بعبارات ومقولات تشمئز منها النفوس وتزكم منها الأنوف وتدع الحليم حيراناً بسبب رويبضات العصر واقتحامهم سياج العلم والتخصص؛ فاهتز جدار الثقة واختلط الحابل بالنابل وأصبح الكل يبكي ويتباكى، ونحن مرة أخرى نسأل مع الإمام مالك: من سرق المصحف؟
محمد سعيد الصحفي
مقالات سابقة للكاتب