صحيح إن معيشتنا قد تحسنت وأحوالنا المادية أصبحت أفضل من ذي قبل، فالحمد لله على نعمائه، وله الشكر والثناء الحسن الجميل..
ولكن تغير طعم تلك اللقمة في الفم لأنها كانت تأتي بعناء وجهد وقلة، وصحيح إننا كنا في شظف من العيش وقلة ذات اليد ولكن كنا نجتمع على سفرة واحدة تملئها الطمأنينة، والقناعة، والرضا والوئام، واليوم أصبح كل منا يأكل وحده وكأننا “غرباء” وانما الغربة نحسها ونستشعرها في دواخلنا وذواتنا وصحيح أيضًا أن حساباتنا البنكية أصبحت متخمة بالأموال؛ إلا اننا نشعر بأننا فقراء وكل منا يحاول استدراك شيء يخشى أن يفوته لا لشيء إلا لأن الفقر قد هاجمنا من الداخل فكيف نحس بالقناعة والرضا ؟!
كانت الأمهات يتفقدن الجيران وما أن يأتيها شيء ولو قليل إلا وتذكر جارتها أم فلان رغم انها تعلم أن ما يأتي بالكاد يكفي ما لديها من أفواه، ولكن حب الخير، ونبذ الأنانية جعلها لا تلتفت لشح ما لديها هي فكرت فقط أن لديها جارة ربما لم تجد اليوم ما تسد به جوع أبنائها …. أنها فعلا غربة حين كان الناس يضحكون ملء قلوبهم في سرور حقيقي ليس مصطنع والان بالكاد نرسم ابتسامة على شفاهنا نجملها ببعض المجاملة أو النفاق الاجتماعي لنكسر رتابة الحياة ولتمضي مصالحنا قدما.
قد يقول البعض أن حياتنا اليوم أفضل أقول نعم صحيح ولكن من أي ناحية فاذا نظرنا إليها من الناحية المادية فهي كذلك نعم تحسنت معيشتنا وأصبحت بقالتنا واسواقنا مليئة بالأرزاق، وما لذ وطاب، ولكن.. أصبحت مستشفياتنا تزاحم بقالاتنا واسواقنا في العدد فللشبع والتخمة ضريبة ندفعها من صحتنا وعافيتنا ففي كل زاوية من مدننا وحاراتنا عشرات المستشفيات وكلها مكتظة ترى الناس يمشون وتحت ثياب واردية كل واحد منهم ما الله به عليم من سقم ومرض …
كنا ننام ملء جفوننا وبيوتنا لا يسترها إلا ما يسمى مجازا (بابٌ) مهلهلًا لا يرد داخل ونحن نيام خلفه تملئنا الطمأنينة والسكينة والسلام واليوم لدينا ابواب من حديد وداخل الابواب ابواب وكمرات مراقبة مع ذلك ننام يملئنا الخوف لأننا فقدنا الأمان في انفسنا فلا ينفع مع فقد الأمان في النفس اية احتياطات …. أليست هذه أشد انواع “الغربة” التي يحسها ويعيشها إنسان هذا العصر….
وقد يقول البعض كذلك هذا تشاؤم وتجني على الحياة ونكران للنعم التي انعم الله بها علينا اقول:” ليحسس كل فرد منا شعوره وأحاسيسه ثم يحكم بعدل لكي لا يشر بالغربة في داخله برغم الحياة المادية الممتازة، واركز على المادية والمنصف يكاد يجزم أن حياتنا اصبحت مجرد ماديات حتى تكاد تخلو من أية روح وكأننا هياكل عظمية لا روحانية فيها تمشي على الارض ….
نعم اقول اننا نعيش غربة قد لا تكون مرت عبر كل الأزمنة والتاريخ على بني الإنسان غربة ونحن بين الأهل والأبناء بل كل يوم تزداد غربتنا اتساعًا في بيوتنا، في اسرنا، في مجتمعاتنا، في دولنا برغم قنوات التواصل التي جعلت هذا العالم وكأنه قرية واحدة، ولكن كل منا أصبح يفكر وحده يأخذ زاوية قصية في الدار يخطط لمستقبله وحده وكأننا أصبحنا مثل أبناء الأخرة كل يقول يارب نفسي … انا اكتب هذا المقال لا لأخوف الناس من حاضرهم ومستقبلهم ولكن احاول جهدي أن نعود إلى أنفسنا ولو بقدر يسير نعود إلى الفطرة فالفطرة لها قانون اسمه التجمع والعيش المشترك، والتضامن، والتكاتف، والتآلف، والتآخي، وحب الناس بشتى مشاربهم هكذا خلق الله الدنيا نعم مختلفين في الطباع والخلق والخلقة والألوان والمشارب والأحاسيس ولكننا من طين واحد خلقنا واختلافنا هو الغاية من خلقنا (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِين* إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ ۗ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ).
نعم اقولها مدوية نحن نعيش “غربة” و “رتابة” رغم التظاهر أننا في احسن حال فلله الحمد من قبل ومن بعد.. ونريد العودة الى كل شيء جميل فقدناه في حياتنا لأن الله مولانا الذي خلقنا يقول (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ).
مقالات سابقة للكاتب