أي قلب صبور تحمل أختي الغالية أم ياسر؟ لقد جثم الدهر عليها بكلكله وتوالت عليها الأيام بالمصائب؛ ثلاثة أبناء شباب في عمر الزهور يأخذهم الموت الواحد تلو الآخر وهي صابرة محتسبة لا تجزع أو تتسخط ولكن يلهج لسانها فقط بالحمد لله، لله ما أعطى ولله ما أخذ .. ثم يشتد بها الأسى والحزن فتقول لي: يا أخي لقد مات جميع أبنائي ولم يبق منهم أحدًا .. إذا أنا مت من ينزلني إلى قبري؟ فتقصم ظهري كلماتها!.. كيف لا وهي شقيقتي التي عاصرت معها جميع أحزانها وأتراحها حين تفقد واحدًا تلو الآخر من أبنائها تبكي بكاء الثكلى وهي بالفعل ثكلى؛ فقد فقدت أبناءها الذكور الذين تراهم يكبرون أمامها فتعقد عليهم الآمال، فإذا بالموت يتخطفهم أمام عينيها الدامعتين، وقلب اعتصره ألم الفراق الذي لا لقاء بعده إلا في يوم العرض، وهي ترفع أكف الضراعة إلى الله الرحيم أن يرحمهم.
فكم كان حزني شديدًا هذا اليوم حين قالت يا أخي أنا قد سامحتهم جميعًا وأدعو الله أن يعمهم برحمته وأن ينزل على قبورهم شآبيب الرحمة وسحائب الغفران، وأخواتها الأكبر منها يمسحن على صدرها ليخففن عنها لواعج الهم وحرارة فقدان فلذات الأكباد ولسان حالهن يقول: من أين لكِ كل هذا الصبر والجلد وأنت أصغرنا سنًا؟ من أي بحر تغرفين هذا الصبر؟ ولكن لمَ هذه الأسئلة؟ أليس الله الرحيم هو الذي ينزل على عباده ويفرغ عليهم الصبر إفراغًا؟
نعم تتأوه آهات حارة ثم تبردها بقول إنا لله وإنا إليه راجعون، الحمد لله الذي أكرمني هذا الكرم، لأنها علمت من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: ( إن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فله السخط ) فتردف: اللهم ارزقني الصبر والرضا بقضائك وقدرك.. آمنت بك يارب، والدموع تملأ عينيها.
كلنا حولها نصبرها ثم ننهار فتقوم هي بالمسح علينا وتدعونا أن نتجلد ونصبر لذلك دائما أدعو الله أن يعطيني قلبًا صبورًا مثل قلبها، إنها نموذج الصابرين ، والآن بقيت معها بناتها فقط مكسورات الجناح من الإخوة ولكن من له رب حليم غفور رحيم جابر قلوب المنكسرين فلن يضام أبدًا، وما هذه الحياة إلا محطة للعبور إلى الدار الآخرة، حيث النعيم المقيم حيث يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب.
وعجيب أمر هذه الدنيا؛ ففي الأشهر القليلة الماضية حين أصاب هذه الأم فشل كلوي وأصبحت تحت رحمة الله بغسيلها كان هذا الولد هو من كان يحملها ويذهب بها إلى المستشفى، فهل تضيع بعده؟ أبدًا إن الله الرحيم له ألطاف خفية ونحن تحت ألطافه.
فاللهم نسألك أن تجبر قلبها وتفرغ عليها الصبر إفراغًا لتعطيها أجر الصابرين، أجرًا بغير حساب، اللهم إنا عبيدك وليس لنا رب سواك فندعوه، تقبل يا الله أبناء هذه الأم المكلومة، تقبلهم عندك واغفر لهم إكرامًا لها، واعقبها الخير في الدنيا والآخرة فإنك أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، وصلى اللهم وسلم على خير خلق الله إمام الصابرين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين.
إبراهيم يحيى أبو ليلى
مقالات سابقة للكاتب