فضيلة الصمت

للصمت فضيلةٌ في زمن الثرثرة لا يُدّركها إلَّا النَّزر اليسير، فأغلب الناس في تسابُّق دؤوب، وتهافُّت مُخيّف، وركْضٌ لاهثٌ لاحتلال صدارة المشهد؛ وظنَّهمّْ في ذلك أنَّ الكلام وحده هو من يُسوُّدّهم.
ولو أنَّ قومي علموا فضْل الصمت؛ لزهدوا في فضْل الكلام.
ولا يُقصد بالصمت الامتناع عن الكلام والإحجام عنه، فاللصمت مواضعٌ كما أنَّ للكلام مواضعٌ أيضاً، ويُحسن بالإنسان مراعاة مقتضى الحال في كلا الحالين.
وليس المقام هنا مقام مقارنة بين الصمت والكلام، ولكنه ذكُّر لفضيلة الصمت الذي يمنحنا الزهد في الكلام والمزيد منه في آن واحد.
يقول الشاعر الأندلسي ابن خفاجة في وصف الجبل:
‏وَقورٌ على ظهرِ الفَلاةِ كأنّـه
‏ طِوالَ اللّيالي مُفكِّرٌ في العواقِبِ
ولعلنا نلمح بروز الصمت والسكون كأحد أهم الصفات التي تُجّلِي كينونة الجبل؛ مما يمنحه المزيد من التَّفكُّر، ويُضفي عليه الهيبةَ والوقار.
ويمكن لنا سَوُّق هذا المعنى الخاص بالجبل بكل دلالته المُضّمَرة إلى الإنسان؛ حتى يكون حاضراً في ذهنيته.
إنَّ إيجاد المزيد من الصمت في عالمٍ صاخبٍ ليس أمراً سهلاً، ولكنه ممكن، فأنت تستطيع خَفْض الصوت؛ كي تُعيّد الانسجام إلى حياتك، والتناغم إلى صيرورة أمورك.
ففي التزام الصمت؛ تجدُّ الروحُ السبيلَ نحو نورٍ أكثر وضوحاً، وبه يتَبددُّ كل ما هو مُحيّر ومُضلِّل إلى حالةٍ عالية من الصفاء والنقاء.
ويمكن لالتزام الصمت مساعدتك أن تكون أكثر تركيزاً، وأقل إجهاداً. وبه تَعرفُ ذواتنا الداخلية بالضبط ما عليها فعله، فنحن بحاجةٍ إلى إيقاف تَدفُّق ثرثرة التفكير فضلاً عن وَقْف جريان الكلام.
إنَّ الصمت يخلق لك مساحةً للتدبُّر والتأمل؛ وبالتالي ترى الواقع أكثر قُرّباً، وبصورةٍ أكثر دقة، وبذهنٍ صافٍ، وأكثر هدوءاً؛ فتحظى بالمزيد من البصيرة والوقار.
ففي أغلب الأحيان تجدُّ الأفكار المستعصية طريقها من تلقاء نفسها في ثنايا الصمت -وليس عبر انهمار الكلام وهطوله- شأنها في ذلك شأن الإجابات الجديدة التي لا تأتي مما نحتفظ به في الجزء الحاسوبي من دماغنا، بل تأتي من الجزء المجهول والهادئ في ذواتنا.
ولعلَّ الصمت هو من يقودنا إلى سَبْر ذلك المجهول والكشْف عما نجهله.
فنحن -عادةً- نعثر على المجهول في المجهول وليس في المعلوم، ولكن من فرط جهْلنا، وقصور فهْمنا؛ نظنُّ واهمين أننا سنجد إجاباتنا المجهولة فيما نعلمه فقط.
وبهذا المعنى نجدُّ أنَّ الصمت لديه القدرة على منح صاحبه الاهتداء إلى تفكيك المعادلة الذهنية: (مجهول+مجهول=معلوم)
وهذا لا يتأتى إلَّا للإنسان الصامت المُتفكِّر.
يقول ريتشارد كارلسون في كتابه (يمكنك أن تكون سعيداً مهما حدث):
“يمكنك أنْ تتعلّم الولوج إلى الجزء الهادىء من ذهنك والوثوق به، وإلى جانبك الحكيم “الصمت” الذي يعرف الإجابات”
إننا عندما نتحلّى بالصمت ونتزين به؛ نتمكن من النَّفاذ إلى داخل كينونتنا؛ حيث يمكن للإجابات أن تنمو وتتطور من دون تدخُّل التفكيرالمفرط وثرثرته المزعجة.
وفي هذا الجزء الخفي من ذواتنا -الذي بلغناه بفضل الصمت- يمكن لنا أن نسمع -ولأول مرة- الصمت يتحدث، وسيخبرك كيف تُركّز، وكيف تكون أقل دفاعاً ومقاومةً ،وأكثر تمركزاً ويقظةً.

سليمان مُسلِم البلادي
solimanalbiladi@

الحلقات السابقة من روشتة وعي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *