حَدَّثَنَا مُوسى بْنُ أَحمد قال: رغبتُ العيْشَ في سلامٍ وهناء، وليس معي عَقْدٌ على نقْدٍ، سوى قلب لم يخالطه وصاية راشد، أو سكن في جوفه وعظ زاهد، فخرجتُ أُذَرّعُ الأزقةَ، وأجوبُ القِفارَ؛ بحثاً عن مقصدي، فإذا أنا ببدويٍّ يَهشُّ بالليّن والعطف أَغْنامه، ويمنحها بضعاً من قلبه، فقلتُ لصاحبي: ظَفِرْنَا والله بوليمةٍ نتقوّى بها زاداً لبقية طريقنا.
فقضينا ليلتنا يُسامرنا البدوي، والتَّعجُّب من حاله يحدث عقلي.
فبتُ ليلتنا مُتَّفكِّرَاً في حاله، ومُتَّدبِّرَاً في سلامه، ومُتَّأمّلاءً في هناء نفسه.
فلما انّفضَّ سامرنا، وتَنَفسَّ الصبح أولى نسمات اليوم الجديد؛ وثَبْتُ عليه قائلاً: أيُعقل أنَّ قلبك لم يُكَسَّر، وأنَّ عقلك لم يُكَدَّر صفوه؟
قال: بلى، والله أنَّها بعدد حبات رمال هذه الصحراء.
فقلتُ له: أأنسَاكَ طُولُ العَهْدِ، واتْصَالُ البُعْدِ؟
فقال: قَدْ نَبَتَ الرَّبيعُ على جرحهم، وإنّي أرجْو أنْ يُصيِّرهُم الله إلى رشدهم، وأن يرزقهم هدايته ورحمته، وأن يجمعنا وإياهم في مستقر رحمته.
فقلتُ له:
نَشَدْتُكَ الله كيف لك هذا الجَلَد؟
قال: لا تحسبن الأمر هيّناً، ومجاهدة النفس سهلة، بل كنتُ ولا زلت في منازعة ومدافعة في الانتصار لنفسي، لكنني عندما بدأتُ في مُدارسة نفسي ومباصرتها بفضلهم -ولو كان قليلاً لا يكاد يُذكر- شَعرتُ أنَّ ثَمَّةَ نسمة باردة تتسللُّ إلى داخلي، وتُخالط جوفي، وتجعله ينام قرير العين، فعاهدتُ الله على أَلَّا أرجع إلى معاقرة سيئاتهم مرةً أخرى، وأنّ أُبْدّلَ من حالي نحوهم إلى الدعاء لهم وتَذكُّر فضلهم.
فوقع كلامه في قلبي؛ فقلتُ لصاحبي:
هَلُمَّ إلى القوم نُصّلح ما علق على قلوبهم، ونُطَهِّرُ ما ران بأفئدتهم.
فسمع البدوي حديثنا، فقال:رويدك، عليك بنفسك؛ فإنَّها إنْ طَهُرتْ؛ صَلُحَ حالك، وزان مآلك، وهان ما بينك وبين قومك، وإنَّ السلام الذي تَنّشده لقلبكَ، والصفاء الذي ترنوه لعقلكَ يغدوان سيداً مطيعاً إنْ عاهدتَ خالقك ببذْل الدعاء الصادق لهم مدراراً دُبْر كل صلاة.
وعندما جمعنا أمرنا للذهاب؛ شَيّعنا إلى مطايانا، استوقفني، فوقف ووقفت، وقال: احفظْ عني ثلاثاً -تَنعمْ بسلامة الصدر وبهجة الحياة- عليكَ باللين، وطيب الكلام، وبذْل الحُبَّ للناس عامةً ولأولي القربى خاصةً، فإنَّها أَجْرَى في القلوب، وأَمْضَى في النفوس.
سليمان مُسلِم البلادي
solimanalbiladi@
الحلقات السابقة من روشتة وعي