تبدو نقاشاتنا -في كثير من الأوقات- كأنَّها حرب وجهات نظر تُدار رحاها في الخفاء من قبل إدارة عمليات (الأنا) التي تهدف إلى انتصار صاحبها دوماً، وإظهاره مُحقِّاً، في حين تُظْهِر الطرف الآخر من النقاش مُخطِئاً.
فمن الملاحظ أنَّ كثير من الناس عندما يحتدم النقاش حول مسألةٍ ما؛ نجدُّ أنَّهم قد تَنَادَوْا مُصْبِحِين أنَّ لا رأي صائب إلَّا رأْينا، وأنّ ما عداه قد جانبه الصواب.
فهم يتحدثون عن تلك المسألة موضوع النقاش، وكأنَّ عقولهم محشُوُّة ومسكونة ليس بحقيقة تلك المسألة، لكن بما تُمّليّه أناتهم عليهم؛ فبدتْ حقيقةً مُسلَّمةً لا تقبل الجدال، أو حتى إعادة النظر فيها.
وهكذا تَنتقلُ وجهة النظر في تلك المسألة -في صيرورة عجيبة- من كونها وجهة نظر، أو مجرد فكرة، أو بعض حصيلة ذهنية واستنتاج منطقي إلى أن مجرد مناقشتها، ومحاولة فهمها؛ يعني تعدياً صارخاً على صاحبها.
والمُدِّرِكُ لحال هذا النقاش يعي أنَّ العقول الفارغة من الحقيقة عن تلك المسألة هي نفسها المُلِيّئة بما فرضته الأنا عن حقيقة المسألة موضوع النقاش.
وبذلك يأخذ نقاشهم في التَّمدُّد، ولم يعد أحد منهم في مزاج الإصغاء لأي أحد؛ فكل واحد من أطراف النقاش يتحدث، لكن لا أحد يُصغي.
ولو أنَّ قومي استقبلوا من أمرهم ما استدبروا؛ لأدركوا فضْل التَّواضع، وأنَّه كلما زادتْ معرفة الإنسان؛ ازداد تواضعاً، وأنَّه كما يقول الدكتور فؤاد زكريا في كتابه التفكير العلمي:
“كلما ازداد نصيب المرء من العلم؛ تضاءل مجال الأمور التي يتحدث فيها “عن يقين”، وازداد استخدامه لألفاظ مثل “من المحتمل”، و “من المرجح”، و “أغلب الظن”.
وهنا نلمح بروز فضيلة التَّواضع كمكون أساسي لحواراتنا، ولو أنَّ الإنسان شرعَ في اتّخاذ العمل بمقتضى هذه الفضيلة؛ لكان خيراً له ولغيره، وهو قرار معنوي وأخلاقي من شأنه أن يمنح حواراتنا الكثير من السماحة والسلام، وتقبُّل وجهات النظر بكل رحابة صدر بدلاً من كونها حرب وجهات نظر نَتَنادى إليها مُصْبِحِين.
سليمان مُسلِم البلادي
solimanalbiladi@
الحلقات السابقة من روشتة وعي