مع أنَّ لكل مرحلة عمرية من أعمارنا جمالها الذي يميّزها عن غيرها، إلَّا أنَّه في مرحلةٍ ما تشعر أنَّ ثَمَّةَ إحساس خفيٍّ يبدأ في التسلل إلى داخلك، ولا تستطيع منْعه، وليس لديك القدرة على كبْحه، أو تجاهله كحدٍ أدنى من رفْضك له.
فثَمَّةَ شعور يلتف حول عنق الكلمات ويهوي بها في وادٍ سحيق، بعد أنْ كُتمتْ أنفاسها، ويجرُّ الأبجدية إلى مكانٍ قصيٍّ من الروح لا نبلغ مداه، بعدما سُلِبتْ كل بهاءٍ قد زَيَّنَ معانيها.
هذا الإحساس الذي يمكنه أنْ ينفذ إلى داخلك عبر شقوق رتابة الأحداث، ويُطلُّ عبر نوافذ تشابه الأيام، واعتياد الأشياء.
ويبدأ تَشَكُّل هذا الإحساس؛عندما تبدأ لحظات الدهشة والذهول في التَّواري والاختفاء عن مشهد أيامنا، ونلحظ غيابها في كثيرٍ من تفاصيل حياتنا، وعندما نفتقد القدرة على تَهجّي حروف الرحمة والعطف في تعاملنا، وعندما يهزمنا التَّكلُّف والتَّصَنُّع، وعندما تفتقر سلوكياتنا إلى التلقائية والعفوية.
نشعر حينها أننا هرمنا، وبلغنا من العمر عتياً، وأُلّقيتْ على كواهلنا مطايا كل أقوامنا؛ حتى أنَّ قوافلنا أعياها المسير، وخارتْ قواها.
ولعلَّ هذا الحال يذكرنا بقول الأديب ديستويفسكي حين قال:
“لا تَكْبُرْ .. إنّهُ فَخّ”
وبالرغم من هذا، يمكن للإنسان أن يعيش في أفضل حالاته، وفي كل مرحلةٍ عمرية يَمرُّ بها، وأنْ يُعيّد لحياته دهشة الوجود، وشغف تَصفُّح الأماكن، ومصافحة وجوه العابرين.
وسبيله في ذلك، أنْ يخلق لنفسه إدراكاً جديداً؛ ينظر من خلاله إلى الحياة عبر تَقَبُّلها كما هي، وليس كما يُريدها أنْ تكون، وأنْ يبدأ في تعاهُّد نفسه وترويضها على مَدِّ حبالٍ من البصيرة والحكمة، يرفعها على أكتاف الدعاء والاستغفار؛ لتعانق سموات لطف الله ورحمته، وأن يعمل على عدم التَّماهي مع أفكار سلبية قد تُداهمه، وتصوراتٍ سوداوية النظرة إلى الحياة، بل عليه أن يقطع سيناريو تلك الأفكار، ويشرع في أعمالٍ ذات نفْعٍ له ولمن حوله، وأنْ يبدأ في مصافحة الحياة بشغفٍ جديد، ومُعانقة حُسن يومه.
فقد لا يكون كل يومك جميلاً بالضرورة، لكن ثَمَّةَ جَمالٍ يسكن ذلك اليوم.
سليمان مُسْلِم البلادي
solimanalbiladi@
الحلقات السابقة من روشتة وعي