يبدو أن الغلبة للأكثرية الساحقة التي تكتسح الساحة الذهنية مِنْ عقولنا بصرف النظر عن مدى سلامتها، ومجانبتها لجادة الصواب.
حتى يُخَيّل للمتأمل أنَّ تسعةَ أعْشارِ ما ينتشر في حياتنا بصورة كبيرة ليس بالضرورة أنْ يكون صحيحاً، وأنَّ العُشْرَ منه فقط هو ما يوافق الصواب.
ومن يتأمل مثلاً علاقاتنا الاجتماعية؛ يجد أن أكثرها هي علاقات بشرية في الأساس، وقليلٌ منها ترتقي إلى مستوى العلاقات الإنسانية.
فالعلاقات البشرية تشمل كافة العلاقات التي تنشأ بين الفرد والآخرين، سواءً كانت هذه العلاقات ناجحة أم فاشلة.
في حين أنَّ العلاقات الإنسانية تقتصر فقط على العلاقات التي تتسم بالنضج الانفعالي، والتَّعقُّل؛ حيث يغلب المنطق على الانفعالات، والاحترام المتبادل بين جميع الأطراف، وإدراك كل فرد لمدى أهميته في المنظومة الاجتماعية.
وبهذا؛ نخلص إلى النضج تسعة أعشار قوة علاقاتنا الاجتماعية، في حين أن حظه من الواقع لا يبلغ واحد من عشرة.
ويمكن قياس هذه النسبة على مدى استجابتنا للتغيير؛ فنحن عادةً نعمد إلى التغيير بشكلٍ خارجي، ونتناسى أنَّ منطلقه من الداخل.
فالتغيير الخارجي تسعة أعشار، في حين أن حظه من التغيير الفعلي لا يبلغ واحد من عشرة.
كذلك من يلاحظ المقارنة بين أقوالنا وأفعالنا؛ يجد أن كلامنا تسعة أعشار عمَّا ننوي القيام به، في حين أن حظه من الواقع لا يبلغ واحد من عشرة.
وما يُقال عن المقارنة بين أقوالنا وأفعالنا، يمكن قَوله عن الأصحاب.
مَا أكْثَرَ الأصحَاب حِينَ تَعُدُّهُمْ
لَكِنَّهُمْ في النَّائُبَاتِ قَليِلُ
فمن يدَّعي أنه صديقنا تسعة أعشار الأصحاب، في حين أن حظهم من الوفاء لا يبلغ واحد من عشرة.
وإن من يلاحظ درجة الوعي لدى الأفراد والمجتمعات؛ يمكنه أن يدرك أن مَنْ وُفِقَ لبلوغ الوعي قلة قليلة مقارنةً بمن ران على قلوبهم عتمة الجهل المركب.
فالوعي كُلّ يدعيه، في حين أن من بلغه لا يتجاوز واحد من عشرة.
وإن من ينتصر لنفسه في العلاقات كُثْر، بينما مَنْ يسلك منهج التَّغافُّل نسبة ضعيفة، مع أن “تسعة أعشار حُسن الخلق في التغافل” كما قال الإمام أحمد بن حنبل.
ولعلَّ ما يمكن لنا ملاحظته هذه الأيام، انتشار المشاهير، وتسيُّدهم المشهد الاجتماعي، مع أن النزر اليسير منهم من يقدم محتوىً هادفاً ينفع الناس، بينما الغالبية العظمى منهم يقدم ما يجعله يحصل على مشاهدات ومتابعات أكثر دون النظر إلى قيمة محتواه أو احترامه للناس كحدٍ أدنى.
فالتفاهات تسعةُ أعْشار محتواهم، في حين أن ما ينفع الناس لا يكاد يبلغ واحد من عشرة.
سليمان مُسْلِم البلادي
solimanalbiladi@
الحلقات السابقة من روشتة وعي