سرك في بير

     السر ذلك المتمرد الزئبقي الذي لم يتحكم فيه إنسان هذا العصر كما تحكم في أشياء كثيرة، فهو الشيء الوحيد القابل للتهتك أمام أكثر صور الحرص الإنساني جهداً وتحصيناً.

     عند الحديث عن رؤيا سيدنا يوسف عليه السلام وهو يستشير أباه في إذاعتها تجد هذا الحرص الأبوي على كتم سر الابن حديث التجربة والعهد بالناس، ويتجلى ذلك في هذه الآية القرآنية الجميلة (يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك…) ، أي حافظ على سرك، وممن؟ من إخوته! فكيف بالأباعد من الناس؟

     يقول نبينا صلى الله عليه وسلم : (استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان) والمثل يقول: ( احفظ سرك يحفظك) ، وتناول هذا المعنى الخليفة الراشد الفاروق عمر رضي الله عنه حين قال : ما أفشيت سري لأحد قط ، فأفشاه فلمته إذا كان صدري به أضيق). 

     واقعية رائعة من هذا الصحابي الجليل رضي الله عنه ، فالإنسان إذا ضاق صدره بسره فصدر الذي يستودع أضيق بلا ريب.

     يقول أحد الأعراب (وهذه رسالة لأعراب زماننا): بلغ من حفظي للسر أن أفرقه تحت شغاف قلبي ثم أجمعه وأنساه كأني لم أسمعه! 

     عجباً أيها الأعرابي كيف لو أنك بيننا الآن؟ إذا لذابت شغاف قلبك وتفطرت حزناً وشفقة علينا نحن أبناء هذا الزمان فأسرارنا تتطاير وتهرول يمنة ويسرة بين صدور الناس. لذلك لا أسرار! 

     نحن نعيش زمن تفلت الأسرار فهي تتداول بلا زمام ولا خطام ، فإنسان عصرنا الرقمي ليس عنده أسرار، والذي زاد الطين بلة تواجد وسائل التواصل الاجتماعي بأنواعها فمجرد اتصاله المباشر بالشبكة العنكبوتية يصبح كمن يستحم في حمام زجاجي يشف عما بداخله ،فأكثرنا لا يستطيع مقاومة شهوة الحديث والتطلع لأسرار الغير فهي مغرية حتى درجة الإفشاء والإنعتاق من أقفاص الصدور وشغاف القلوب صوتاً وصورة.

     العجيب أن كثيرا من الناس (إلا من رحم ربك) قد استمرأ هذا السلوك فأصبح كتاباً مفتوحاً يتصفحه القاصي والداني.

     حفظ الأسرار مطلب شرعي وعرفي جميل يسمو بصاحبه إلى مصاف أصحاب المؤهلات العالية في كتمان الأسرار،لذلك يصف الناس من يفشي الأسرار بـ(القربة المشقوقة، فهي لا تحفظ الماء وهو لا يحفظ السر) والعجب في تكاثر هذه القرب فهي تتناسل كالفطر وتزاحمك في كل مكان بحثاً عن سر جديد ومطاردة عجيبة لأسرار الناس!

     أخيراً تأمل معي هذه المعركة الطاحنة بين الصدور والأسرار الذي يصورها شاعرنا بقوله: 

     إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه ….  فصدر الذي يستودع السر أضيق 

     لذا هل لنا أن نقول: أن السر ضاع والبئر تهدم؟ 

    محمد سعيد الصحفي / الكلية التقنية بجدة

 

 

مقالات سابقة للكاتب

تعليق واحد على “سرك في بير

أبوسعود

جزاك الله خيراً الله خير
الاستدلال على أهمية حفظ الإنسان لأسراره بقصة يوسف في مكانه
هذه الأيام أسرار البيوت تنشر على الملأ والله المستعان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *