مع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي وتطبيقاته المتعددة، بدأ الناس في التهافت على متابعتها، واللهث خلف ما يتدفق من خلالها من محتوى مرئي.
وقد أسف -في بداية الأمر- عقلاء القوم لذلك،وقالوا أن هذا إيذاناً ببدء عصر ظلام جديد يتسم بالضحالة والتفاهة، وهمه الوحيد مقدار ما يتحصل عليه صاحب الحساب من أموال وشهرة بصرف النظر عن المحتوى الذي يقدمه.
ولا يغيب عن أُولي النُّهى خطر هذه الوسائل بمحتواها الممجوج من تأثير كبير في طريقة تفكيرنا وسلوكياتنا، حيث تُشكّل تلك الوسائل ما نراه، وتحدد الكيفية التي نراه بها.
فآثارها لا تحدث على مستوى الآراء والمفاهيم، بل أنها تُغيّر من أنماط الإدراك بنحو مُطّرد،ودون أي مقاومة.
فهي تُخادع عقولنا، فمحتواها ما هو إِلَّا قطعة اللحم الشهية التي يحملها اللص لتشتيت كلب حراسة العقل.
ووفق هذا التصور؛ ليس لنا أن ندّعي بأننا اخترنا أن نستخدمها -وكأنه كان يمكننا أن نختار عدم استخدامها- كما أنه من الصعب التصديق بأننا اخترنا هذا الكم الكبير من التأثيرات الجانبية لمتابعتها.
وبهذا أصبحت الوسائل قوى جبارة تعمل على إعادة تشكيل أنشطة أفكارنا،والمعنى الذي ينطوي عليها.
وهي بهذه القوى التي تمتلكها؛ بات لِزاماً علينا الاعتراف بالتغييرات التي يحدثها تكرار المشاهدات على إعادة صياغة نظرتنا للحياة؛ مما يعني أنه تمت عملية تكيُّف لعقولنا وفق ما تطرحه تلك الوسائل، وبالتالي انعكست عملية التكيف العقلي والاجتماعي مع ذلك المحتوى؛ فطفق الناس بتصوُّر حياتهم من منظور جديد بعيداً عن واقعهم الحقيقي؛ وهو ما أدّى إلى كثير من الهزات الاجتماعية في البُنى الأسرية.
فشرع الناس في تخطيط حياتهم ومحيطهم الاجتماعي تحت تأثير ما تقذفه وسائل التواصل الاجتماعي، فتمكنت هذه المكائن الإعلامية الجديدة من تغيير لغة الخطاب الاجتماعي عبر استخدام استعارات جديدة لوصف المظاهر الحياتية، وباستعمال تقنيات فكرية قادت الأسر إلى إعادة تغيير سلم أولوياتها؛ حيث أصبحت تلك الوسائل ليست مجرد أدوات معينة على الحياة، بل أنها أيضاً تحولات إدراكية داخل رؤوسنا؛ وذلك نتيجة الآليات التصاعدية في أدمغتنا؛ فتحول الانتباه بشكلٍ سريع إلى المقاطع والأخبار الأكثر مشاهدة.
ونتيجة لذلك كله؛ أصبح المجتمع وكأنه يقيم حفلاتٍ جماعية عبر فضاء رقميٍّ مرئي، وذلك عبر انتقاله من الشاشة الخاصة إلى الشاشة الجماعية العامة، مع أن تلك المقاطع -التي تتم مشاهدتها في الحفلات الجماعية- لا تمتلك الوقت الكافي لتنضج، فيتم الزّجّ بها في لحظةٍ آنية لا يمكن تدارك الخطأ فيها؛ فغدت تلك المقاطع حِملاً معرفياً بالياً على المجتمع حمْله والاستزادة منه.
* تنويه:
يمكنكم متابعة الجزء الثاني من المقال الأسبوع القادم إن شاء الله تعالى.
سليمان مُسْلِم البلادي
solimanalbiladi@
الحلقات السابقة من روشتة وعي