جُبلتْ النفس البشرية على حُبّ الصحة والعافية، والنفور من الألم وكل ما يؤدي إليه، وما يُفْضي إليه.
ولهذا؛ نجد الناس تذهب إلى التحدث عن نعمة الصحة والعافية، في الوقت الذي يتم فيه إقصاء الألم من المشهد الذهني.
والالتفات إلى الألم -كونه أحد الشخصيات المؤثرة في المشهد المعيشي للإنسان- يجعلنا ندرك الوجه الآخر للألم غير الذي ألفناه، وتعودنا عليه.
فالألم بدايةً، هو فرصةٌ مواتيةٌ للعودة لله -سبحانه وتعالى- والإنابة إليه، وهو طريق الإنسان لبثّ حزنه وشكواه لله -عزَّ وجل- وحده من الألم الذي أَلَمَّ به، والكرب الذي أصابه، والهمّ الذي أطبق بفكيه على خاصرة حياته.
قال تعالى: “قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ”
كذلك يغدو الألم الناتج عن المصائب التي يُبْتلى بها الإنسان -وفق هذا الالتفات- فرصةً عظيمةً للتنوير عبر ترويض النفس، وحمْلها على التواضع، والبعد عن الكِبْر والخيلاء، كما أنه يأتي فرصةً سانحة لكشْف الغطاء عن كثير من الحقائق والأشخاص؛ وبالتالي يكون أداةً لإعادة تصحيح المسار الذي كان يسير عليه الإنسان، والنهج الذي كان يتبعه.
ولعلَّ الإمام الشافعي -رحمه الله- صَوَّرَ هذا المشهد خير تصوير حين قال:
جَزَى اللهُ الشَّدَائِدَ كُلَّ خَيْرٍ
وإن كانت تُغصّصُنِي بِرِيقِي
وما شُكْرِي لهَا حمْداً وَلَكِن
عرفتُ بها عدوّي من صديقي
أيضاً يعلمّنا الألم كيف نُعيِّد ترتيب الأشياء والشخوص إلى أماكنها الصحيحة، وننجح من خلاله في إعادة صياغة أولوياتنا، وبلّورة صورنا الذهنية تجاه الحياة وأحداثها.
والألم -وفق هذا المنظور- يأتي كصمتٍ مليءٌّ بالكلام، وعلينا الاقتراب منه على أمل أن يَشِيَ ببعضٍ من ذلك الكلام.
كما يأتي الألم كاختبار لمدى تحملُّنا، وجسارتنا النفسية في مواجهة التحديات، ويجعلنا نتوجه لخالقنا عزَّ وجلّ مُتَضرّعيّن أن يُفرَّجَ عنا، وأن يرحمنا، وألّا نقنط من رحمة الله مهما تأخر ثوابه ولطفه؛ فالله عليم حكيم بعباده.
والألم إن صَدَّقْنَا دعواه؛ وآمنَّا برسالته؛ يمكنه مَدّ يد المساعدة لنا؛ للتطهُّر من أدران الحياة، ويُزيّل عن عيوننا الغشاوة التي حجبتْ عنا رؤية الصورة البهيّة للحياة، ويُزودنا بالأدوات اللازمة للتشافي من الأوجاع التي غرستْ أنيابها في جسد حياتنا، ويمنحنا القدرة الكافية للتحرُّر من القيود التي كَبْلَتْ أقدام أحلامنا.
وأخيراً، من منظورٍ روحي، يأتينا الألم كرسولٍ يُبْعَثُ في ديار أحداثنا؛ يُبَلّغْنَا رسالةً مفادها:
“أيها الإنسان، إذا اشتد عليك الكرْب، وتعسّر عليك الدرب، وازداد عليك الهمَّ والغمَّ، والضيق والألم الذي أَلَمَّ بك، وأُغْلقتْ الأبواب في وجهك، وتعبتَ وتعبَ قلبك؛ تَذَكّرْ أنّ الله قريب منك، يسمع شكواك،ويرى دموعك، بُثّْ إليه وحده حزنك وألمك، فهو -سبحانه- الأعلم بسر قلبك، والأقدر على تفريّج همك”.
خاتمة ..
يا صاحبَ الهمِّ إنَّ الهمَّ مُنفَرِجٌ
أَبشِر بخيرٍ فإنَّ الفارجَ اللهُ
اللهُ يُحْدِثُ بعدَ العُسرِ مَيسرةً
لا تَجزعَنَّ فإنَّ الكافيَ اللهُ
إذا بُليتَ فثق باللهِ وارضَ بهِ
إنَّ الذي يَكشفُ البَلوى هو اللهُ
واللهِ ما لكَ غيرُ اللهِ من أحدٍ
فحسبُك اللهُ في كلٍّ لكَ اللهُ
سليمان مُسْلِم البلادي
solimanalbiladi@
الحلقات السابقة من روشتة وعي