“تباين”

في مسيرة الحياة، يتعرض الإنسان للعديد من التحديات والاختبارات التي تتطلب منه مواقف مختلفة في التعامل معها، ومن أبرز هذه المواقف التي تتقاطع مع تجاربنا اليومية الصبر والرضا.

كثيرًا ما نسمع أن الصبر نصف الإيمان، وأن الرضا باب السعادة، لكن هل هما متشابهان؟ أم أن هناك فرقًا جوهريًا بينهما؟

الصبر هو القدرة على التحمل والتجلّد في مواجهة الشدائد، إنه انتظار الفرج مع السعي، ومواجهة الأزمات دون يأس أو تراجع، فالشخص الصابر لا يعني بالضرورة أنه راضٍ عما يمر به، لكنه يملك الإرادة والقوة للتعامل مع الموقف حتى يتغير أو تتحسن الظروف.

هناك عبارة جميلة للوك دي فوفنارجس تقول “الصبر فن التمسك بالأمل”، وهل الصبر إلاّ أمل في التغيير؟، فالصبر يحمل في طياته انتظارًا داخليًا لأن تنقشع الغمامة، لكنه لا يعني بالضرورة تقبل الواقع بشكل كامل.

من الناحية العملية نجد أن الصبر مطلوب في كثير من جوانب الحياة، سواء في الدراسة، أو العمل، أو العلاقات.

فالصبر على التعلم يؤدي إلى الإتقان، والصبر على زملاء العمل يعزز بيئة التعاون، والصبر في تحقيق الأهداف هو السبيل للنجاح، ولكن هل يكفي الصبر وحده دائمًا؟

عندما أطلق نيلسون مانديلا على حفيدته من ابنته الكبرى اسم “أمل”، كان يعكس الكلمة التي لم تفارقه طيلة سنواته داخل السجن، فقصته مثال عصري على قوة الصبر، وكيف أنه كان الوقود الذي أبقاه ثابتًا في مواجهة الظلم فكانت ثمرة هذا الصبر مطابقة للحكمة الصينية التي تقول “بالوقت والصبر، تصبح ورقة التوت عباءة حريرية”.

إلا أن الصبر في بعض الأحيان يكون مجرد تأجيل لحالة من المعاناة، حيث يبقى الإنسان في وضع غير مريح دون أن يصل إلى القناعة التامة.

وهنا يأتي دور الرضا فهو ليس مجرد تحمل للموقف، بل قبول له بطمأنينة وسلام داخلي، فالإنسان الراضي لا يشعر بثقل الأمر كما يشعر به الصابر، لأنه يرى أن ما يحدث له هو خير بطريقة أو بأخرى، حتى لو لم يكن ظاهرًا له في حينه.

الرضا ليس استسلامًا، بل هو إدراك أن الحياة تسير وفق نظام أوسع مما ندركه، وأن لكل حدث حكمة قد تتجلى لاحقًا، فالرضا يمنح صاحبه السلام الداخلي، بينما الصبر قد يكون صراعًا مستمرًا بين الأمل والألم.

في كثير من الأحيان يكون الصبر مرحلة تسبق الرضا، فهو جهد يبذله الإنسان ليواجه الواقع، بينما الرضا هو حالة من التسليم الواعي بأن ما يحصل هو الأفضل.

على سبيل المثال، الشخص الذي يفقد وظيفته قد يصبر في البداية محاولًا العثور على فرصة أخرى، لكنه قد يصل لاحقًا إلى مرحلة الرضا عندما يدرك أن ما حدث كان خيرًا له وفتح أمامه آفاقًا جديدة.

ومع ذلك، ليس كل صابر راضيًا، فقد يصبر الإنسان على موقف ما وهو ممتلئ بالغضب والضيق، لكنه مضطر للتحمل لأنه لا يملك خيارًا آخر على الأقل في الوقت الراهن.

في المقابل قد يكون هناك رضا دون حاجة إلى الصبر، كأن يتقبل الإنسان موقفًا معينًا منذ البداية دون شعور بالمعاناة.

رغم أهمية الصبر والرضا، إلا أن لهما وجهًا سلبيًا إذا تم فهمهما بشكل خاطئ فيكون الصبر سلبياً عندما يتحول إلى استسلام وخضوع دون محاولة تغيير الوضع، فيما يعتبر الرضا سلبياً عندما يصبح مبررًا للكسل وعدم السعي نحو الأفضل.

وفي عالم اليوم، حيث تتغير الأمور بسرعة، يصبح تحقيق التوازن بين الصبر والرضا أكثر تحديًا فكيف يمكننا الحفاظ على هذا التوازن؟

لتأتي الإجابة عبر تذكير النفس بأن كل شخص لديه معاناته المخفية، ولا بأس بالسعي لكن لا تجعل توقعاتك غير واقعية، ولا تربط سعادتك بتحقيق أهدافك فقط، لأن ذلك قد يؤدي إلى الإحباط.

كما أن التركيز على العلاقات العميقة والمستقرة بدلًا من الاستهلاك العاطفي السريع يساعد على إيجاد توازن بين الطموح والطمأنينة.

وواقع الصبر مقاومة داخلية يشعر فيها الشخص بالألم أو التعب لكنه يتحمل، وقد يكون في داخله شيء من الضيق أو الرجاء لزوال المحنة.

فيما تعتبر حالة الرضا خالية من المقاومة فيتقبل الشخص الواقع بدون معاناة داخلية، بل يشعر بالسلام والطمأنينة.

وأيًا كان موقعنا بين الصبر والرضا، فإن تحقيق التوازن بينهما هو مفتاح الطمأنينة في هذه الحياة ففي عالم متغير، الصبر وحده قد لا يكون كافيًا، والرضا وحده قد لا يكون حكيمًا، لكن الجمع بينهما هو سر العيش بسلام رغم تقلبات الحياة.

عبدالله عمر باوشخه

 

مقالات سابقة للكاتب

2 تعليق على ““تباين”

اشرف جمال كتبي

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته مقال جميل اخي عبدالله بارك الله ونفع بك والحمد لله ديننا الحنيف يحثنا على الصبر والتحلي بالايمان والشواهد والايات والدلائل كثيرة فمن صبر ظفر ومن آثر أُثر

احسان سولو

أود أن أعبر عن تقديري العميق لهذا المقال المتميز الذي يعالج موضوع الصبر والرضا بشكل شامل وموضوعي شكراً للدكتور القائد والملهم على هذا التحليل العميق والمقارنات الهادفة التي تثري فهمنا لهذه القيم الأساسية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *